الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

"ألف آسف"

القاهرة 24
الجمعة 25/ديسمبر/2020 - 05:26 م

•  في سنة 2015 ولما د."ضياء النجار" أستاذ الأدب الألماني والترجمة في كلية الألسن جامعة عين شمس دخل المحاضرة عشان يبدأ الشرح للطلبة بتوعه كل الأمور كانت ماشية بشكل طبيعي زي أى يوم دراسي جامعي عادي جداً.. لكن وزي برضه ما بيحصل في أى مكان دراسي سواء مدرسة أو جامعة؛ فيه طالب كان بيتكلم مع زميله اللي جنبه في موضوع كان مهم بالنسبالهم وكان واخد تركيز واهتمام الاتنين!.. د."ضياء" أخد باله فبص بصة ليها مغزى للطالب اللي بيتكلم.. الطالب اتعدل في قعدته، ووصلت له رسالة الدكتور اللي بالعين.. بعد شوية وقت رجع يتكلم تاني مع اللي جنبه!.. د."ضياء" لمحه، وبص له نفس البصة!.. الطالب اتعدل في قعدته!.. قبل نهاية المحاضرة بدقايق الطالب كرر الوشوشة مع زميله برضه وكإنه مصمم رغم تحذيرات الدكتور إنه يكمل كلام!.. هنا د."ضياء" كان له رد فعل عكس شخصيته اللي الكل كان مجمع على هدوءها!.. بمنتهى الإنفعال والعنف شخط في الطالب.. (أنت مابتفهمش!، عيب كدا وماينفعش وأنا بصتلك مرتين وأنت لسه بتتكلم، فيه إيه!، الله!).. الكلام قد يبدو عادي لكن اللي ماكنش عادي هو درجة الهجوم اللي اتقال بيها!..  لحظة سكوت أشبه بصمت القبور نزلت على القاعة، ويمكن ماكنش باين غير صوت تنفس الطلبة وضربات قلوبهم المخضوضة من عصبية أستاذهم الجديدة عليهم بالنسباله.. الفكرة إن اللي كان حاسس بالخجل مش الطالب نفسه سبب المشكلة بس!.. آه الطالب أكيد كان خجلان ومكسوف وباصص في الأرض بس الأغرب إن اللي كان باين عليه إنه محرج هو د."ضياء"!.. لحظات مرت تقيلة على الكل قبل ما د."ضياء" يستجمع نبرة صوته الهادية ويقول بصوت خرج غصب عنه لسه شايل نبرة إحراج، ووجه كلامه للطالب: (أنا آسف متزعلش مني إني اتعصبت عليك حقك عليا أنا آسف للمرة التانية!).. قالها وجمع أوراقه وخرج من القاعة كإنه هو اللي كان غلطان مش الطالب!.. في نفس اليوم بالليل دخل د."ضياء" على جروب الدفعة على فيسبوك وكتب للطالب ولكل الطلبة بتوعه بوست اعتذار جديد على عصبيته اللي من وجهة نظره ماكانتش أفضل الحلول للموقف ده!.. يخلص الموضوع على كده؟.. لأ.. تاني يوم بيروح د."ضياء" الكلية، وبيدخل المحاضرة بتاعته وهو شايل بوكيه ورد عشان يديه للطالب إياه!.. الموضوع كان من القصص اللي تناولتها الصحافة والناس بكتير جداً من الاستغراب والاستنكار اللي كانوا شايفين إن د."ضياء" زودها، وإن الطالب إنسان مهمل ولا يستحق كمية الاعتذارات الكتيرة دي وده هيشجعه إنه يكررها تاني وتالت وعاشر ما هو شاف أستاذه بيعتذرله مرة وإتنين وتلاتة رغم إن الواد نفسه هو اللي غلطان!.. ما بين ناس أشادت بتصرف د."ضياء"، وما بين ناس تانية انتقدوه وشافوه أوڤر فضل الموضوع محتاج تفسير عندي.. بعدها بشهور جاتلي فرصة إنه أكون مسؤول عن تحرير برنامج إذاعي بحبه اسمه "مصر من البلكونة" تقديم الأعزاء د."محمد فتحي"، و"ياسمين نورالدين".. صممت إن من ضيوف الحلقات الأولى يكون د."ضياء النجار" عشان نسأله عن الموقف ونعرف تفسيره لـ فعله!.. صممت لدرجة إني طلبت حتى لو مش هنقدر نجيبه بنفسه كـ ضيف على الأقل نعمل معاه مداخلة.. عملنا كده فعلاً، واتصلنا بيه وفكرناه بالموقف وانتظرنا رأيه.. قال: (أنا هتحاسب على زعل أى حد مني يوم الدين.. لما غضبت كنت ضعيف، ولما اعتذرت رجعت قوي!، اللي بيملك شجاعة الاعتذار يملك مقومات الحوار.. هل أدعو الناس إلي البر وأنسى نفسي!).. د."ضياء" نموذج مختلف، محترم، وشحيح من شكل المدرس أو الأستاذ زى ما بنحلم بيه.. صورة بعيدة عن الفئة القليلة من المدرسين اللى بيضربوا الطلبة أو بيستغلوا ظروفهم عشان يتحكموا في مستقبلهم.. والحلو في القصة زي ما عرفنا منه في مداخلته إن الطالب إياه الموضوع ساب أثره فيه لحد ما اتخرج وكان من أوائل الدفعة!.. إعتذار أستاذه له حسسه بالذنب، والتقدير له في نفس الوقت، وخلاّه منه لنفسه قرر إنه يكون عند حسن ظنه، وحصل فعلاً.. والسبب؟.. الأسف.

 

 

• كنت في إبتدائي في مدرسة خاصة طبيعتها مختلفة شوية.. كانت مدرسة راهبات بس بتضم طلبة مسلمين ومسيحيين عادي.. نوعية التعليم اللي بتاخده وطريقة تقديمه مع الإنضباط اللي كان فيها مع اليونيفورم المكوي بدون كسرة واحدة والجزمة اللي لازم تكون بدرجة لمعة معينة، والشعر المتسرح بنفس الإستايل لكل الولاد، وحاجات تانية كتير؛ خلّوا مدرسة "السلام" هدف لأي أب وأم إنهم يدخلوا ولادهم فيها، ويبقوا من طلابها.. الجميل كمان إن المدرسة كانت قدام البيت مباشرة.. قدامه قدامه مش مبالغة.. بوابة المدرسة الرئيسية وسورها كله في مواجهة بيتنا، ورغم إننا كنا في الدور التاني في العمارة إلا إن بلكونة البيت كانت كاشفة الحوش كله!.. ده خلق نوع من الأمان عند أبويا وأمي، وشال مني أنا الخوف اللى بيكون في أى طفل لما بيدخل الحضانة لأول مرة!..أنت كإنك في البيت، وكتير أمي كانت بتطلع تشوفني في الفسحة!.. كبرت في المدرسة اللي أغلب الطلبة بيستمروا فيها من حضانة لإعدادي.. في 5 إبتدائي كان فيه رحلة شهرية ثابتة بتنظمها المدرسة لـ دار أيتام.. كل شهر بتطلع المدرسة كلها بكل فصولها الدراسية وبنقضي يوم مع أطفال دار أيتام كبيرة ومعروفة في الصعيد.. مع الوقت وتكرار نفس الرحلة كنّا بنزهق كأطفال.. نفس المكان وبنروح نشوف نفس الأطفال التانيين هناك!.. طبعاً حسابات البُعد الإنساني لـ هدف المدرسة النبيل واللي عايزين يزرعوه فينا من الإحساس باليتيم ماكانتش في بالنا.. في مرة فيه طفل معانا في الفصل قال إن والده هينظم رحلة لـ مدينة ملاهي كانت لسه فاتحة جديد على أطراف المحافظة وإن والده قال له شوف لو حد من زمايلك يحب ييجي معانا عشان نبقي مجموعة.. طبعاً زميلي ده مجرد ما قال كده في الفصل كذا واحد من زمايلنا شبطوا في الموضوع وراحوا كلموا أبهاتهم.. بقي العدد 6 تلاميذ مع 6 أولياء أمور هيروحوا رحلة للملاهي يوم الخميس الجاي!.. كل أسرة هتروح بعربيتهم.. اتكلمت مع أبويا الله يرحمه وطلبت منه أروح الرحلة دي، وعشان عارف إنه عنده شغل قلت له إني ممكن أروح مع حد منهم لوحدي عادي.. رفض المبدأ من الأساس وكانت حجته إن الصيف خلاص داخل علينا كمان شهر ونصف وكده كده هنسافر إسكندرية ده غير إنه هيكون قلقان عليا.. اتضايقت وكنت منتظر منه إستيعاب أكبر من كده خصوصاً إن التحصيل الدراسي ونتايج إمتحانات الشهر كانت في صالحي بالتالي مفيش مبرر مقنع للرفض.. حاولت معاه كذا مرة وفي كل مرة كان عِنده بيزيد ومش بيجاوب إجابات تقنعني!.. طيب.. كان أول قرار أخدته من ورا البيت وأول وتقريباً آخر كدبة أكدبها علي أبويا!.. أنا هروح الرحلة مع زميلي وأبوه ومش هقول في البيت وهغيب عن المدرسة في اليوم ده بس هروح بالزي المدرسي عشان محدش في البيت يعرف حاجة.. حصل فعلاً ورحت معاهم وقضينا اليوم، وكان في قمة المتعة.. لما جه ميعاد المرواح من المدرسة طبعاً والدتي لقت إنى اتأخرت فإتصلت بأبويا في الشغل.. (الواد ماجاش من المدرسة وكل العيال خرجت).. رجع أبويا من الشغل بسرعة، وهو مش عارف يعمل إيه.. إحنا بنتكلم عن وقت ماكنش فيه موبايلات ولا غيره بالتالي أسهل طريق للتواصل هى التليفون الأرضي أو الزيارة المباشرة.. راح أبويا لـ بيت كذا حد من زمايلي عشان يسأل عني وأخد وقت عشان يوصل لـ طفل من اللى راحوا الرحلة لأن "تامر" بالنسبة لكل اللي في الفصل واللي أبويا راح سألهم؛ كان غايب في اليوم ده بالذات، ومش هيعرف أنا فين غير اللي كانوا معايا فعلاً!.. على الناحية التانية كنت أنا راجع مع زميلي وأبوه.. قبل مدخل المحافظة كان فيه طريق من إتنين.. يا يمين يا شمال.. بيت زميلي في الطرف الشرقي للمحافظة وإحنا في الغربي.. فعشان يروح يوصلني للبيت ويرجع تاني هياخد وقت.. أبو زميلي سألني: ( الموقف بتاع العربيات الأجرة هناك أهو، لو نزلتك هنا في الموقف هتعرف ترجع لوحدك؟).. رديت وأنا الرجولة والإعتماد على النفس جايبين آخرهم معايا: (أيوا يا عمو).. سأل: (متأكد؟).. رديت: (آه ماتخافش).. نزلني في الموقف، وبعد ما مشي اكتشفت إن مش معايا فلوس، وكمان مفيش عربيات أساساً رايحة لمكان قريب لكن كلهم رايحين مناطق وحتت تانية!.. قعدت على الرصيف وعيطت.. 3 ساعات!.. كان في الوقت ده أبويا الله يرحمه لقط طرف الخيط وعرف اللى حصل من حد من زمايلي، وكان في طريقه لـ الملاهي رغم إن الوقت أصلاً بقي متأخر.. عشان يوصل للملاهي لازم يروح الموقف ويركب من هناك.. وصل الموقف ونزل من العربية وراح عشان يشوف العربيات فشافني على الرصيف قاعد بعيط.. قرب مني وأنا أخدت بالي إنه جه فحسيت إن ربنا أنقذني من الموت.. جريت عليه وأنا مش مصدق.. أول ما بقيت على مسافة قريبة منه إيده تطولني فيها؛ سكعني قلم سخن محترم رج روحي قبل خدي.. عياطي زاد.. مسك كتفي بعنف وقال لى كلام يجرح القلب قبل السمع.. (عاجبك كده؟.. عارف أمك عاملة إزاى دلوقتي؟.. أنا مش قولتلك لأ؟.. قدرت تكدب عليا؟).. حاولت أشرح له إن أبو زميلي عرض إنه يوصلني وأنا اللى رفضت.. قال: (هو لو كويس ماكنش ساب عيل في سنك والوقت ده لوحده).. رديت بِعند: (أنا مش عيل).. بص بصة خلّتنى بلعت لساني وسكتت.. مسكني من إيدي وبدأ يشوف أى عربية تروحنا.. مالقيناش!.. قال لى: (عاجبك).. ماردتش.. قعد على الرصيف!.. قعدت جنبه.. قال لى: (يارب تكون مبسوط).. ماقدرتش أمسك دموعي.. سابني بدون أى تعليق.. شوية وقال: (ماتزعلش).. الكلمة كانت مفاجأة ومش في وقتها ولا الطبيعي إني أسمعها منه هو!.. سألته: (إيه؟).. رد: (عشان لو كنت وافقت إنك تروح الرحلة أو أقنعتك إن ليه لأ ماكنش ده كله هيحصل، فماتزعلش، أنا آسف).. الكلمة كانت كبيرة ووقعها تقيل على نفسي وسمعي.. قلت: (أنا اللى آسف يا بابا).. رد: ( خلاص يبقى إحنا الإتنين آسفين).. سألني: (والملاهي الجديدة حلوة على كده؟).. رديت: (أيوا دى فيها كذا كذا كذا).. حكيت بمنتهى الحماس، وسمعني بمنتهى الإنصات وكان متجاوب معايا، وخلاّني نسيت إن كان فيه مشكلة أساساً!.. الكلام جاب كلام والضحك جاب ضحك وفجأة أبويا كشر وقال: (المهم إنك طيرت عليا الشغل بتاع بكره عشان السهر وهضطر أغيب).. بصيت في الأرض وأنا بقول لنفسي يادي النيلة ماخلاص ما عم ما إحنا اتصافينا واعتذرنا بقى!.. سكت شوية وقال: (نبقي ناخد أمك وأخوك ونروح بكره كلنا نشوف إيه موضوع الملاهي دي).. أنا دايماً بشوف أبويا الله يرحمه كبير.. كبير في ردود أفعاله أو في تعامله مع الناس اللى أكبر أو أصغر منه.. بس بعد الموقف ده شوفته أكبر بكتير، وأخدت عهد على نفسي من وقتها إنى ماكسرش له كلمة ولا أعمل حاجة من وراه وإن خاطره يبقي على راسي.

 

 

 

• فيه ناس بتداري غلطها من خلال عصبيتها، ومشيهم بمبدأ "خدوهم بالصوت قبل ما يغلبوكم".. اللي هتاخده بالعافية أو بالإجبار من اللي قدامك؛ تقدر تاخد أضعاف أضعافه بـ كلمة "أنا آسف" متقالة في وقتها المظبوط لو كنت أنت اللي غلطان.. "جبران خليل جبران" قال: (الإعتذار لا يعني أنك على خطأ فقط، بل يعني أنك تقدّر العلاقة مع الآخرين وتمنحها أهمية كبيرة).. وجود خلافات بين أى اتنين طبيعي، بس استمرارها للأبد بسبب تمسك كل طرف بموقفه هو ده اللي مش طبيعي!.. لو غلطت وفي نفس الوقت شايف إنك مش قادر تستجمع شجاعة الاعتذار للي قدامك؛ ده سبب أدعى يخلّيك تكون مستوعب تأثير غلطتك عليه كانت عاملة إزاي أصلاً!.. الأديب "جورج برنارد شو" قال: (إذا كان الاعتذار ثقيلاً على نفسك، فالإساءة ثقيلة على نفوس الآخرين أيضاً)!.. غلاوته عندك لو حقيقية، وشجاعتك وثقتك فى نفس لو برضه حقيقيين مش هيبقي عندك أزمة تقول "أنا آسف".. الطيب اللي بينكم يستاهل إنكم تخلوا مركب الود والعِشرة تمشي.

تابع مواقعنا