الجمعة 22 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

ثقبّ أسودُ في الذاكرة.. قصة قصيرة لعبير عزاوي

عبير عزاوي
ثقافة
عبير عزاوي
الأحد 28/مارس/2021 - 09:07 م

لستُ ميِّتًا! 

الصدق الصدق.. أقولُ لكم: 

- لستُ ميِّتاً..

قلبى ينبض، عقلى صاحٍ، أكادُ أشعرُ بدفْقِ الدّمِ فى خلايا مُخِّى رغم أنّ يباساً ما قد أصابها .

لِمَ لاتنظرون إلى عينيّ؟!

ها أنا أفتحُ فمي، لسانى لا يتحرّكُ، لكنى أتحدث إليكم ألا تسمعون صوتي؟!

 لِمَ يغمر الاستغراب عيونكم؟! 

كلُّ ما فى الأمر أنّنى وقعتُ هنا وسط الزحام. شيءٌ ما حملنى وألقى بى عبر الطّريق، فصار جسدى معرضاً لفضولكم وعيونُكم المتحلّقةُ حولى تحملقُ بوجلٍ وريبة.

عينا أمّ سالم بأهدابها الطويلة ترمقاننى بجزع، عينا مصطفى الحلّاق الوقحتان تنظران بين طيّات ثيابي، وعينا أبى وليد تنظران شزراً لملابسى الملوّثةِ بالطّين. لطالما كرِهَ أبو وليد وجودى فى الحارة ونظر إلى بقرفٍ حين أخرجُ أوّلَ النّهار، وحين أعودُ آخره خاوى اليدين إلّا من دفاترى المسودّةِ وكيسٍ مهلهلٍٍ فيه القليلُ من طعام. 

 تقفز من بين البياض والسواد عينان واسعتان ذابلتان يلوحُ فيهما طيفُ دمع، ربما كانتا عينى تلك الفتاة التى دأبت على التّوَارى خلف نافذتِها المطلّةِ على زاوية الشارع، ومراقبة مشهدِ مرورِنا وافتراقنا كلّ صباحٍ أنا وسهيلة. 

(هل كان اسمها سهيلة؟)

منذ ألقت بنا عصا النزوحِ فى بلدتكم قاسيةِ القلب هذه وأنا أذوق كلّ يومٍ معنى جديداً للألم.

 عيونكم كما عيون أهلِ البلدة على الرغم من أنها اعتادت منظر النازحين و صاروا جزءًا من نسيج حاراتها ودكاكينها وبسطات الخضار والأغراض الرّخيصة فيها إلا أنها لاتزال تنظر بتشكُّكٍ لهذا الغريب الذى لا يتركُ زوجته صباحاً حتى يحتضنَها، ويقبّلها وكأنّ هذه آخرَ مرّةٌ يلتقيها.

 عيونُكم المستنكرةُ المتحلقة حولى تتّسعُ حدقاتُها، ويتلوّنُ بياضُها بالأحمر والرّماديّ، يدمدمُ بعضُكم بكلماتٍ، لكنّى لا أفهمُ ماتقولون. 

هل ذكرتم اسمَ سهيلة؟! 

هل تعرفونها؟!

 ( ربما اسمها سهيلة!) 

أنتم لا تعرفون كم هى عذبةٌ كأوراق ورد، و نديّةٌ كغيمة، وكذلك لا تعرفون أنها فرحةُ قلبى الأولى وقصيدتى الوحيدة، وأننى كنت أجتاز كلّ شوارع مدينتنا التى أكلها ذئبُ الحرب؛ لأكتبَ لها قصيدةً على ساق شجرة الكينا التى تجاورُ بيتها، عند نهرٍ ..../نسيتُ اسمه/ .

بيتُها مبنى من حجارةٍ حمراءِ اللون، أو رماديّة لكنها صارت فيما بعد حمراء / ربّما العكس. 

حين شرّدتنا المدافعُ، تركتْ أهلها وتبعتنى إلى هنا، كانت تريد طفلاً أسمرَ يشبهني، لكننى لم أمنحْها سوى القصائد الثّكلى، ونظراتِ الاستنكار من عيونكم التى تحملق فى الآن، ذات العيون التى كانت تراقبنا باستهجانٍ يجلّلُ مسيرتنا من البيت الذى نستأجره إلى زاوية الشارع حيث نفترق، العيون التى تزم نفسها وتقطب حانقة على وأنا أُقبِّلُ شفتى سهيلةَ المبلّلتينِ بندى الصباح، بينما يستمتعُ المارُّونَ بالمنظر.

تلاحقنا عينا تلك الفتاة الغضّةُ التى تشبه زهرة فلٍّ أوّل تفتحها، أنتبه لها وهى تتلصّصُ علينا من وراء نافذتها، أتخيّلُ الفتاة، أستشعرُ انفعالها بالمشهد وأكادُ أتحسّسُ صدرها وهو يلهثُ مع كلِّ قبلة أقبّلها لسهيلةَ قبل أن نفترق؛ سهيلةُ تذهبُ لعملها، وأنا أمضى للبحث عن جثثٍ جديدةٌ للقصائد.

أكاد أعرفُ ما الذى يحصلُ لتلك الفتاة، أشعرُ بتوفّز كلّ حواسها ونزيزِ مسامها وازديادِ دفُّقِ الدّمِ فى قلبها، حين تترقّبُ موعدَ مرورنا أنا و س ه ى ...(إن كان ذلك اسمها!) 

اليوم قبل لحظاتٍ سمعتُ تنهُّد الفتاة ثم تصاعدت التنهُّداتُ؛ لتصبحَ صرخاتٍ مكتومة، لكننى لم أتمكنْ من معرفة سبب هذه الصرخات فقد ثقبت رأسى رصاصةٌ عابرة وألقت بى فى عرض الطريق، وها أنا أنظر لعيونكم المفعمة بالدهشة، أنتظر تفسيرًا لنظراتكم التى تقتحمنى وتلوكنى وتتفلنى مراتٍ ومرات، بينما س ... (فقط لو أتذكر ماكان اسمها ) تتابع طريقها وهى سعيدة تبتسم، وتتلذّذُ بطعم قبلاتى على شفتيها، ولا تعلم بالرّصاصة التى تنتظرُها عند المنعطف القادم.

 

تابع مواقعنا