الكارنتينا والعزل الصحي
مضى وقت طويل على كثير من البلدان لم يعايش مواطنوها فيه جائحة أو وباء واسع العدوى يحصد الأرواح كالنار في الهشيم، حتى خرج كوفيد 19 من الصين غازيًا العالم كله ومعيدا إلى الأذهان تاريخا ظنناه أصبح من الماضي البعيد، فالأوبئة من أمثال الطاعون والكوليرا لم تكن بالنسبة لنا سوى ظلال نقرأ عنها أو نشاهدها في الوثائقيات، ومن كان يظن أننا في يوم ما في شمال إفريقيا أو أوروبا أو أمريكا سنعيش هذا الرعب الذي خيمت ظلاله مع قدوم فيروس كورونا المستجد، وتعود إلى الأذهان التضرعات الجماعية وظلال الانتقام الإلهي التي شكلت من جديد آمال البشرية ومخاوفها.
لقد وقف الإنسان ضعيفا مهزوزا من جديد بعدما ظن أنه انتصر على الأوبئة وألقاها بلا رجعة إلى مجاهل التاريخ، فإذا به يواجه وباءا جديدا أكثر فتكا مع جهله بطبيعة وآثار ذلك الوباء الذي ما ينفك يتحور ويتغلب على التحصينات البشرية ليهاجم من جديد بكل ضراوة.
هذا الوضع فرض طبيعة جديدة للحياة، تعطلت الكثير من الأمور وأقفلت المدارس والجامعات، وخلت الشوارع من المارة والمشترين والسامرين، وأصبحت حواضر العالم المزدانة مدن أشباح من الشرق إلى أقصى الغرب، ووسط هذا الوضع عادت إلى الواجهة ممارسات وأوضاع كنا ظنناها من الماضي، وعاشت مدننا الكبيرة حالة من فرض الطوارئ وحظر التجوال تشبه تلك التي ترافق الحروب الكبرى.
وهنا نود أن نلقي الضوء على ممارسة كانت ترافق ظهور الأوبئة الخطيرة الفتاكة، نتعقبها تاريخا، ثم نتعقب ظهورها من جديد بشكل آخر وآليات جديدة خلال الأزمة العالمية الناتجة عن فيروس كورونا المستجد، تلك الممارسة هي ما يعرف باسم "الكرنتينا".
"الكرنتينا": كلمة مأخوذة من الإيطالية، وتعني الحجر الصحي لمدة 40 يوماً، وهي نظام قديم ظهر في القرون الوسطى في المدن الأوروبية. عرفته مصر مع قدوم الحملة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، لكن بشكل محدود، لم يتم التوسّع فيه إلا في عصر محمد علي باشا، ففي بداية عام 1831م، قبل وصول وباء "الكوليرا"، في هجمته الأولى على مصر، اتخذ الباشا خطوة استباقية حين دعا قناصل الدول الأوروبية المقيمين بالإسكندرية، لإنشاء نظام "الكرنتينا" أو الحجر الصحي، النظام المعمول به في أوروبا، كإجراء وقائي لمكافحة الأوبئة، وفرضه على ميناء دمياط عام 1829 وعلى ميناء رشيد 1831م وأنشأ أيضاَ كرنتينا في بلدة "الشيخ زويد" في شمالي سيناء لحجر القادمين إلى مصر من بلاد الشام، واهتم بها أكثر عندما بدأ في تكوين الجيش وكان من اهدافه الحفاظ على الجنود من الأوبئة والذي يستلزم الحفاظ على عموم الشعب من الفلاحين وغيرهم لأن الجنود كانوا من عامة الشعب.
ويذكر الرحالة ألكسندر كينجلاك موقف المصريين من الكرنتينا كما كتب المؤرخ المصري الدكتور خالد فهمي حيث رصد أثناء زيارته لمصر عام 1835م وذلك أيام تفشي وباء الطاعون أن المصريين للأسف لم يلتزموا بالعزل ولم يقتنعوا بضرورة الكرنتينا لكن على الجانب الاخر التزم الأجانب بقوانين الكرنتينا وجلسوا في مساكنهم وأغلقوا عليهم أبوابهم. واستعان محمد علي باشا بالجنود لإجبار الناس على تنفيذ الكرنتينا ونظمها في المدارس والمصانع.
وهناك فرق بين الكرنتينا والعزل الصحي، حيث إن الكرنتينا تطبق على الأشخاص الأصحاء الذين لم تظهر عليهم أي أعراض لمرض او وباء ما والهدف من هذا تحسباً لان يكون الشخص حاملاً للمسبب المرضي ويكون سبباً لنقله للأخرين أما العزل الصحي فهو يكون لمن ثبت وتم التأكد من حمله للمسبب المرضي وتقوم الجهات المسئولة برعايته واعطاءه العلاج المناسب.
والعجيب والمؤسف في الآن نفسه أنه برغم التقدم العلمي والصحي الذي وصل إليه العالم على صعيد الطب الوقائي إلا أن العالم تجاهل في بداية انتشار فيروس كورونا اتخاذ التدابير الاحترازية وتفعيل العزل والحجر الصحيين، ما تسبب في تفاقم تلك الأزمة وزيادة خسائرها بجنون، ولعل التنبه لخطورة الأمر مبكرا واتخاذ إجراءات وقائية كالعزل الصحي والحجر للمسافرين وغيرها كان بلا شك سينقذ العالم من كل ما حدث.