التحولات السلبية
عندما نتحدث عن الإعلام الديني، فإننا نقصد بذلك الإعلام الذي يركز في برامجه ومنتوجه ومحمولاته على البرامج الدينية، سواء كانت، عبارة عن دروس أو مواعظ أو فتاوى أو أناشيد أو حوارات أو نصائح أو نقل للطقوس الدينية، أو بث للقرآن الكريم، وبصفة عامة كل ما يتعلق بالمنظومة الدينية، سواء عند المسلمين السنة أو المسلمين الشيعة، وكذلك الأمر بالنسبة للوجود الإعلامي المسيحي في المنطقة العربية، والذي ارتبط بمرحلة التسعينيات من القرن الماضي".
لم يكن لهذا النوع من الإعلام الديني، أن ينتشر في الفضاء العربي والإسلامي، لولا التحولات التي طالت -كما أسلفنا من قبل- المشهد الديني برمته، والتي لم تأت في سياق مخطط له ومفكر فيه بشكل استراتيجي واستباقي، بل إنها جاءت نتيجة التحولات القسرية التي عرفتها المنطقة العربية. ذلك أن المنطقة العربية لم تكن مهيأة على مستوى النسق الثقافي السائد، للتفاعل الخلاق مع هذه الطفرة الفضائية التي حدثت في هذه الحقبة.
ولهذا فإن هذه الفورة الإعلامية، ممثلة في أن الفضائيات العربية بدت عاجزة عن ولوج مرحلة البناء الثقافي البديل، لأسباب موضوعية لها علاقة بطبيعة الإعلام الأحادي النمط الذي كان سائدًا في العديد من الدول العربية، وبأوضاع المجتمعات العربية القلقة، وأسباب ذاتية لها علاقة بتركيبة هذه الفضائيات الهجينة ورؤيتها الضبابية لدورها ووظيفتها. وانضاف لهذه العوامل، بروز عناصر السرعة والآنية، الربح السريع والسهل، والمرح والتسلية والترفيه، والنجومية الإعلامية، كأبرز العناصر المكونة للثقافة الإعلامية الرائجة، سواء على الصعيد العالمي أو على صعيد الفضائيات العربية، مما دفع بالعديد من الهيئات والحساسيات وحركات الإسلام السياسي إلى الاستثمار في هذا القطاع المدر لأرباح طائلة، وأكثر من ذلك لرساميل دينية بالغة التأثير والنفاذ لعمق البناء الثقافي للأفراد وللمجتمعات.
من الناحية العملية، ارتكبت كثير من القنوات الدينية التي تم إيقافها موبقات تتجاوز ما تم النص عليه في هذه الوثيقة، الأمر الذي جعل إغلاقها إجراء ضروريـًا، بل ومطلبـًا عامـًا.
الشاهد أن حالة الفراغ الديني بين الناس، والأمية الدينية التي تعاني منها قطاعات كبيرة من المجتمعات العربية أدى بها إلى أنها أصبحت في مرمى القنوات الفضائية الدينية، وسط حالة من انسحاب واضح للمؤسسات الدينية الرسمية المعتدلة في العالم الإسلامي. وهذه الثقافة القائمة التي تروج للفتنة المذهبية عبر الفضائيات لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تمثل "خير أمة أخرجت للناس"، وهي تثير الفرقة والصراع الذي نهى الله -عز وجل- عنه حين قال "واعتصموا بحبل الله جميعـًا ولا تفرقوا"، وهي أيضـًا بعيدة كل البعد عن منهج الدين الحنيف الذي أمرنا بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وأن نجادل الناس بالتي هي أحسن.
بل إن تاريخنا العربي والإسلامي يشهد بعصور طويلة من الانفتاح وقبول مختلف الأفكار والمذاهب المتنافرة في إطار اجتماعي وثقافي واحد. قال خلف بن المثنى:
"كان يجتمع بالبصرة عشرة في مجلس لا يُعرف مثلهم:
الخليل بن أحمد صاحب العروض سُني، والسيد محمد الحميري الشاعر رافضي، وصالح بن عبدالقدوس ثنوي، وسفيان بن مجاشع صفري، وبشار بن برد خليع ماجن، وحماد عجرد زنديق، وابن رأس الجالوت الشاعر يهودي، وابن نظير النصراني متكلم، وعمرو ابن أخت المؤيد مجوسي، وابن سنان الحراني الشاعر صابئي؛ فيتناشد الجماعة أشعارًا وأخبارًا؛ فكان بشار يقول: أبياتك هذه يا فلان أحسن من سورة كذا وكذا، وبهذا المزاح ونحوه كفَّروا بشارًا".