صلواتُ الانتظار.. قصة قصيرة لناصر خليل
يُكشفُ عنا الغطاء، نسمات منعشة تلفح وجوهنا، نفقد بعضاً من دفء تراصنا متجاورين، أفتح عيني بكسل، أنفض عني نُتف نوم قصير خاطف لم يدم طويلاً:
- يا له من عالم جديد!!!
أرى وأنا مُسْتلق على ظهري مصابيح شاحبة فوق أعمدة شارع متثائب، بقايا ومضات لمصابيح تغلف مئذنة سامقة وشاقة طريقها للسماء، السماء تتشرب الضوء الأبيض بتؤدة، تطرد سوادها، تطوي ظلمة في الأفق. يدها الحانية تمتد لتعدل وضعيتي، أنهض متكئاً على إخوتي بجواري، تهش بالمنشة عنا الذباب والهوام، تتمتم بكلمات ملؤها الرجاء:
- يا فتاح يا عليم ... يا رزاق يا كريم!!!
من تكون السيدة ... أتكون أمنا – فلأدعوها هكذا – ولم لا فهي ترعانا بحنو زائد منذ وصولنا إلى هذا المكان. الشارع يبدأ في الانتفاض، الأقدام تدب فوقه، يتكاسل عن الصحو التام، يزداد الصخب شيئاً فشيئاً ويمتلأ الشارع.
- صباح الخير ...
قالها أحدهم وهو واقف فوق رؤوسنا، كرشه يتدلى منه ويجثم فوقي أنا، أحس بالاختناق، أنفاسي تتحشرج:
- أنقذيني يا أماه ...!!!
أمي لا تسمعني، لا تحاول إنقاذي، وبنبرة ملؤها الخنوع:
- يسعد صباحك يا بيه.
- أريد واحداً منهم!!!
تصعقني الكلمات، يبدأ عقلي في التساؤل" منّا نحن"...ماذا يريد ذو الكرش منا!!
- لماذا يأخذنا من أمنا؟؟
تمتد يدها، ما زلت تحت وطأة كرشه في النزع الأخير، تنشر الرعب بين الجميع، لا أحد يستطيع الفرار، لا مكان للاختباء، تختار أحدنا، تلقي به في كيس بلاستيكي شفاف، تدفعه للرجل، يدس في يدها بعضاً من نقود معدنية، تُقَبلها ثم ترفعها لجبهتها،
تضعها في كيسها القماش وتردد في أمل:
- استفتاحنا لبن إن شاء الله!!!
يأخذ الرجل أخي وينصرف ، أراه قابعاً في الكيس الشفاف يبكي والحزن يكسو وجهه المنتفخ ، إخوتي يبكون أخاهم ، ينقبض قلبي ، أتعجب من تلك الأم التي تبيع أولادها .أنظر إليها بغضب وهي تجلس فوق أحد أحجار رصيف المشاة - أصوات متداخلة تسيطر على المكان-ترتدي ثوبا قديماً أسود ،ضاع لونه فصار أقرب إلى الرمادي الباهت، منثورة فوقه بقع وندوب لا نهائية، بقايا لُطَع بيضاء من عجين جف فوقه ، تنتعل شبشباً بلاستيكيا هو الآخر في الرمق الأخير من عمره ، عجفاء ، وجهها مسود فقد كل ملامح المرأة فبدت أقرب لأن تكون رجلاً ، عيناها بليتان زائغتان تحدقان في فراغ ، تضع على رأسها طرحة سوداء موشاه بالثقوب .
- يا لك من مسكينة... لكنني لن أنسى أبداً ما فعلته بأخي!!!
أعود وأراقب الشارع – أنا في الواجهة التي تمكني من الرؤية – الذي يعج بالمارة، أرى أطفالاً، نساءً، شيوخًا، شبابًا، لحظة صمت قصيرة منذرة ثم تبدأ ضوضاء وصرخات في كل مكان، الأقفاص المليئة بالخضار والفواكه تتطاير في الهواء ثم تسقط هناك في تلك العربة الضخمة أو في نهر الشارع فتدوسها الأقدام، أمي تلملمنا على عجل، تحاول حملنا والهروب، تقتنصها يد أحدهم في قسوة، يركل آخر " الصينية “غاضباً، فنتطاير في الهواء، يسقط إخوتي واحداً تلو الآخر في وحل الشارع، أسقط أنا بجوار أمي الغاضبة والتي تصرخ في هيستريا:
- حرام عليكم يا ظلمة ... خربتوا بيتي!!!
لا يعيرونها اهتماماً ويستمرون في نشر الفوضى على جانبي الشارع، إخوتي هناك تدوسهم الأقدام العمياء المهرولة، صارت وجوههم النضرة سوداء، علق بهم طين الشارع وأوساخه. لحظات مرت عليّ كأنها دهر، يهدأ الشارع بعد كر وفر مع هؤلاء الغلاظ القساة.
- يا له من عالم بشع وقاس!!!
أمي مهدودة تجلس في مكانها فوق الحجر تبكي وتولول وتلطم خديها، تنظر إلى إخوتي وقد تغيرت ملامحهم من أثر الدهس، انكمشت أجسادهم المنتفخة، فيزيد نحيبها. خائف، مستكين بجوار طرف ثوبها على أرضية الرصيف، مقلوب على وجهي أنظر للعالم بنصف عين، أصرخ:
- أنا هنا يا أمي ...أنا هنا.
تلمحني وأنا أحاول أن أعتدل، تُنْزل يدها لأسفل، تحملني، تقربني من وجهها، تتفحصني، تطبع قبلة على خدي ثم تصرخ:
- أيام سوده ...!!!
تدمع عيناي عندما أراها في هذه الحالة، أتعجب من قوة احتمالها والإصرار على البقاء في هذا المكان القاسي.
- كل تلك المصائب تحدث لي في حياتي القصيرة...ماذا لو قدر لي العيش أكثر؟!!
تمسح أمي جسدي بطرف ثوبها رغم أنني نظيف لم يعلق بي شيء، تكف عن البكاء، يهدأ صدرها، أرى بعضا من أمل يلمع في عينيها، ترفع بصرها إليّ في امتنان ثم ترفع يديها إلى السماء وتتمتم بكلمات لم أسمعها جيدا – يبدو أن السقطة أفقدتني سمعي – ترفعني في الهواء وتنادي: - أخر رغيف ... يلا ...يلا ...أخر رغيف!!!
أتمنى في هذه اللحظة لو أن أمي كانت اختارتني وأعطتني لذلك الرجل بدلا من أخي. لا يقترب أحد منها، تظل يدها مرفوعة لأعلى، أراقب العالم القاسي من أعلى، أدرك أن رحلة شقائي طويلة.