الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

تعذُّر الحج مظهر من مظاهر الضعف البشريّ

الأربعاء 14/يوليو/2021 - 09:59 م

قد تسمع من بعض جبارين ابتلاهم الله بصحة أو مال أو جاه، جعلهم يظنون أنهم لا يقهرون وأنهم فوق بقيَّة البشر، عبارات مؤلمة لسامعها تنم عن غطرسة وتجبر وتعالٍ على خلق الله، فهو يسألهم أسئلة توبيخيَّة عن جهلهم بمكانته، وعن مدى قدرته على أن يفعل بهم الأفاعيل، وكأنَّه ليس من البشر المخلوقين! وربما هذا المغتر بجاهه وسلطانه يكون في لحظة تهديده ووعيده وإذلاله لمخلوق مثله قد فقد جاهه وماله؛ حيث فُصِلَ من عمله، أو خسر أمواله في انتكاسة تجارة أو بورصة سرعان ما يصله خبرها، فيصبح هذا الذي كان ذليلًا بين يديه عزيزًا يسعى هو إليه؛ لنيل فرصة عمل في مصنع من مصانعه أو شركة من شركاته بعد أن كاد يتكفف الناس!. 

نعلم يقينًا أنَّ هذا حدث لكثيرين يعجز الحاصر عن حصرهم؛ إلا أنَّ هذه الحقيقة المتمثلة في ضعف الإنسان، وإن امتلك قوة زائلة بعض سنين أو شهور وربما أيام، يدركها من وقف ذليلًا مهانًا يومًا أمام هذا المتكبر الغافل المغتر بقوته، ويدركها هذا المتغطرس الذي زال عنه سبب غطرسته فأصبح منكسرًا، أراد ربُّ البشر أن يدرك هذه الحقيقة جميع خلقه ولا تقتصر على هذا الذي اغتر بقوته الزائلة ومن عانى من جبروته من الناس. 

ومن حكمة الله أن يكون هذا البيان العمليّ والإثبات الماديّ بواسطة مخلوق لا تراه العين البشريّة، ولا تعرف أين يختبئ ولا من أي جهة ينطلق؛ لينفذ قرار افتراسه لفريسته التي ربما تكون بعض هؤلاء الذين يرون أنفسهم فوق الخلق وأنهم لا يقهرون؛ ليرى الواحد منهم نفسه مستسلمًا على سرير مرضه لأطبائه يحاولون إنقاذه من طعنة هذا الخفي الملقب بفيروس كورونا، أو الفطر الأسود أو غيرهما من جنود قد يعلن عنها في قابل الأيام. 

هذه الحقيقة التي كشف عنها فيروس كورونا وإخوانه، وهي ضعف الإنسان وقلت حيلته مالم يكن في معيّة خالقه، أوقفنا عليها كتاب ربنا منذ صدر الإسلام علَّنا نعتبر، ونقف على حقيقة ضعفنا، فإن كان سبب الغطرسة القوة والسلطان، فمَنْ مثل فرعون وهامان في امتلاكهما؟ ألم يسجل كتاب ربنا عن فرعون قوله: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ}؟ أليس هو القائل كما سجله كتاب ربنا:{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ }، وبلغ به التمادي مداه: {فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى *فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} فكانت النهاية عبرة لمن يعتبر:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى}، ونحفظ ما نقل إلينا عن النمرود المتجبر حيث كانت نهايته بفعل حشرة ضعيفة سلَّطها ربه عليه، وحتى في تاريخنا الإسلامي حين ظنَّ صفوة المسلمين أنَّ قوتهم تقهر عدوهم وسهوا لحظة عن كون النصر بيد خالقهم وحده سجله كتاب ربُّ العالمين درسًا لنا حتى لا ننسى:{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}. 

وإن كان سبب التعالي المال فمن امتلك منه مثل الذي امتلكه قارون:{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} فكانت نهايته مدوّية:{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } وحتى لا نكون كهؤلاء ذكرنا ربنا بضعفنا وبأصل خلقتنا لترتدع نفوسنا إن هي سوّلت لنا أننا أقويا:{ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} لقد غفلنا عن هذه الأدلة الناطقة بضعفنا، وإن بدا لنا أننا لن نقهر، ونسينا أن من وهبنا أسباب القوة؛ من قوة بدن، أو كثرة مال، أو عظمة جاه،قادر على أن يسلب عنَّا ما منحنا في عشية أو ضحاها، فجاءنا هذا الخفي كورونا وما يقال عن تحوره الجديد (دلتا) ليفعل بنا الأفاعيل ويجعلنا نقف على ضعفنا وقلة حيلتنا، فدول العالم بما وصلت إليه من قوة علم وفي مقدمتها أكثرها تقدمًا عاجزة عن وقف هذا الخفي الذي ربما كان من عبثهم المعملي، فمن من دول العالم فتك به هذا الخفي كأمريكا والصين وبريطانيا والهند النووية...؟ 

لا تسطيع دولة ولا دول العالم بأجهزتها مجتمعة تقدير حجم الخسائر في الأرواح، ولا ما أنفق على وسائل وقاية وتطعيمات غير مقطوع بجدواها، ولا يمكنها تقدير خسائر شركات السياحة والطيران، ولا كمّ من تشردوا من العاملين في القطاعين العام والخاص في كافة دول العالم، ولا كمّ الشركات التي أفلست ولا المشاريع التي تعطلت. ومن مظاهر الضعف البشري هذا الأسى الذي يشعر به ملايين ممن حال بينهم وبين حج بيت الله للعام الثاني على التوالي،حيث عجز هؤلاء عن تلبية دعوة خليل الله سيدنا إبراهيم عليه السلام { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } وهو الفريضة الخاتمة لفرائض ديننا:{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} والتي بيّنها رسولنا في قوله: بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ"، فكم من نفوس تألمت، وكم من خسائر تكبدتها وتتكبدها شركات الطيران، والجهات التي تقوم على خدمة حجاج بيت الله من مطوفين وناقلين للحجاج بين المشاعر، ومطاعم تطعم الملايين، وتجار تروج تجاراتهم ويعود بها حجاج بيت الله هدايا إلى أحبتهم؟ 

وإذا كان سابقًا في مثل هذه الأيام يصعب حصولك على غرفة أو ربما سرير في فندق أو بناية قرب الحرمين فهذه الفنادق والبيوت تشتاق لطارق يطرق بابها. ولقد أحسنت المملكة حين ضحت بتحمل كل هذه الخسائر فقررت قصر الحج على أعداد محددة من داخل المملكة فقط، وذلك حفاظا على إقامة الشعيرة وعدم تعطيلها بالكلية، وفي نفس الوقت تحقيق مقصد من مقاصد شرعنا الحنيف وهو حفظ النفس البشريّة وعدم تعريض ملايين الحجيج للتهلكة.

 وعلى من حرموا من الحج أن يبقوا على نيتهم الصادقة في السعي لحج بيته الحرام متى زالت الغمة ورفع الوباء، فمن مات منهم قبل أن يمكن وهو على نيته حشر ملبيا بإذن الله، وذلك لقوله – صلى الله عليه وسلم-:«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»، وعلى من سبق لهم الحج وكانوا يرغبون في التطوع توجيه المال الذي كانوا سينفقونه على حجهم أو بعضه إلى ميادين الخير الكثيرة، كالفقراء والمساكين والأيتام، وتجهيز غير القادرين من الشباب والفتيات للزواج، وعلاج مرضى كورونا وغيرها...فأي نفقة تنفق في سبيل سيجدها منفقها في ميزان حسناته:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}. وما ذكر بعض من كلٍّ فعله هذا الخفي الماكر، الذي نجح نجاحًا منقطع النظير في كشف حقيقة ضعف الإنسان وقلة حيلته، وأعتقد أنه قد بات حتميَّا أن نستجيب لقول ربنا: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} هدانا الله إلى صراطه المستقيم، ومنَّ علينا بنعمة التواضع وخفض الجناح، وجنبنا التعالي والتكبر والتجبر، ورفع البلاء والوباء، وردَّ عباده إلى بيته الحرام آمنين.

تابع مواقعنا