دروس وطنية من طوفان الثورات العربية
دروس وطنية خمسة يمكن رصدها وتأملها والاستفادة منها بعد مرور أكثر من عشر سنوات على طوفان الثورات التي اجتاحت العالم العربي منذ عام 2011، ومزقّت وحدة العديد من الدول، بعد إسقاط مؤسساتها، وخاصة أننا في مصر نجونا – والحمد لله - من مخاطرها بفضل جهاز المناعة الوطني والحضاري القوي للمصريين، وبفضل تماسك نسيجنا الوطني، وبفضل وحدة ووطنية المؤسسة العسكرية وأجهزة الدولة الأمنية والسيادية، وإدارتهم الرشيدة لتطورات وأحداث ما بعد 25 يناير 2011.
بل إننا استطعنا تحويل الأزمة التي هددت وجودنا، وسببت الخراب والحروب الأهلية في سوريا وليبيا واليمن، إلى فرصة تاريخية أعدنا فيها بناء مؤسسات وأجهزة واقتصاد الدولة المصرية، وتجديد رؤيتها ورجالها، والتأسيس لجمهورية جديدة تستكمل بناء مشروع الدولة الوطنية المدنية الحديثة في مصر التي تأسست على شرعية ثورة يوليو 1952.
ويجب علينا ونحن بصدد استكمال بناء الجمهورية الجديدة أن نضع - حُكامًا ومحكومين - تلك الدروس الخمسة نصب أعيننا حتى نتعلم من التاريخ، فلا نُعيد إنتاج أخطاء وإخفاقات الماضي من جديد، وهذه الدروس هي:
الدرس الأول:
إن ثورات الربيع العربي، بما لها وما عليها، وبصرف النظر عن استغلالها من بعض قوى الداخل والخارج، وجعلها مطية للوصول للسلطة حينًا، ولهدم الدولة وتمزيق وحدتها حينًا آخر، كانت لها أسبابها داخلية موضوعية.
وهذه الأسباب الموضوعية يمكن تلخيصها في تحول تلك الدول إلى "دول فاشلة أو رخوة" بسبب جمود وشيخوخة عمر وفكر ورؤية قياداتها، وبسبب انتشار الفساد في مؤسساتها، وتحول النخب السياسية الحاكمة من رجال دولة إلى مجموعة أصحاب مصالح، قاموا بنهب الأوطان، وتوزيع السلطة والثروة بين الأهل والمقربين.
ولهذا خرجت الجماهير العربية غير المؤدلجة للشوارع والميادين تُطالب بسقوط تلك الأنظمة، مدفوعة بدواعي اليأس من إصلاحها، وبالأمل في تأسيس واقع جديد، يصبح معه على أرض أوطانهم ما يستحق الحياة.
الدرس الثاني:
إن خيار الثورات الشعبية كوسيلة للتغير والإصلاح، هو خيار ثبت فشله ومخاطره في هذا الزمان، وهو أشبه ما يكون بـ "حصان طروادة"؛ شكل جميل، وغاية نبيلة ورومانسية في الظاهر، وشرٌ كبيرٌ في الباطن، وأداة للاختراق والهدم وإسقاط الدول.
وهو شر جعل الدولة ميدانًا لصراع قوى إقليمية ودولية، وميدانا لتدخل أجهزة مخابرات معادية، استطاعت بسهولة اختراق الثوار، وتوجيه الحركة الثورية لتحقيق أهداف خارجية، تستهدف إضعاف الدولة وتمزيقها وحدتها، وهدم وإسقاط مؤسساتها.
الدرس الثالث:
إن الجيش الوطني القوي المُوحد غير الحزبي أو الطائفي، هو عمود خيمة الوطن، وصمام أمانه في لحظات الخطر، ولن تنجح ثورة شعبية في المنطقة العربية في تغيير أي نظام حكم، مهما بلغ فساده واستبداده، دون دعم الجيش وانحيازه لإرادة الشعب، وبالتالي حماية الأوطان من جحيم الاقتتال الداخلي والحرب الأهلية التي تعرض وحدة ووجود الوطن للخطر.
ولن نخدع أنفسنا، فالدولة المدنية الحديثة هي دولة مؤسسات دستورية، تتحكم فيه النخبة المدنية في الظروف العادية، ولكن عند المنعطفات الكبرى في حياتها، وعندما يكون وجودها واستقرارها في خطر، فإن طوق نجاتها الأخير هو وحدة ووطنية المؤسسة العسكرية، وتصديها بشجاعة وتجرد لإنقاذ سفينة ومُقدرات الوطن من الغرق والضياع.
الدرس الرابع:
إن المتغيرات التي حدثت في وعي الشعوب العربية، وخاصة الأجيال الشابة منها بعد ثورات الربيع العربي، هي متغيرات كبيرة وعميقة، لا بد من دراستها وتحليلها، ووضع سياسات اقتصادية واجتماعية وإعلامية تتلاءم معها، لضمان تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي داخل الدولة. ولضمان التأثير الإيجابي في وعي الأجيال الشابة، وتعزيز مشاعر الانتماء والولاء لديهم، وسد أي فجوة نفسية وقيمية ومعرفية بين الحكام والمحكومين، وبين الأجيال المختلفة.
الدرس الخامس:
إن مستقبل الدولة الوطنية العربية في عالم ما بعد الربيع العربي، والضامن لعدم إعادة إنتاج فشلها السابق في تحقيق طموحات شعبها، يتوقف على مقدار التغيير الذي يجب أن يحدث في فكر ووعي النخبة العسكرية والسياسية "الوطنية" الحاكمة، ومدى قدرتهما على استيعاب دروس فشل مرحلة ما بعد حركة الاستقلال الوطني في خمسينات القرن الماضي في تحقيق طموحات الشعوب.
ثم العمل بدوافع وطنية خالصة، على حماية وجود ووحدة الدولة الوطنية، واستكمال مشروع بنائها وتحديثها، وتعزيز دوائر وثوابت أمنها القومي، على نحو يلائم العصر ومتغيرات الواقع، ويجعل من محاربة الفساد ومُساير طموحات الشعوب في حياة كريمة وعادلة، أولوية قصوى.
وأظن أن تجاهل تلك الدروس الخمسة، وعدم استيعاب مضامينها بواقعية سوف يهدد بإعادة إنتاج الماضي بكل أخطائه، ليُهدر العالم العربي ودوله وشعوبه خمسين عامًا أخرى من حياتهم في انتاج الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ذاتها، التي أدت إلى فشل معظم أنظمة الحكم في الدول الوطنية العربية في تحقيق طموحات شعوبها، وجعلت نهاية بعض تلك الأنظمة والدولة - كما شهدنا جميعًا - نهاية مأساوية.