فصل لربك وانحر
في مشهد من مشاهد التواصل بين الرسالات السماويّة يدلل على أنها جاءت كلها من عند خالق الكون، وأنه لا تناقض بينها في أصول، بل خلاف حول فرعيات ناسبت مراحلها وطبيعة الأقوام التي أنزلت إليهم، وفي دلالة واضحة على جمع إسلامنا لخصال الخير التي حملتها الرسالات كافة للبشر، تمر علينا تلك الفعاليات التي نمر بها نحن المسلمين في مثل هذه الأيام من كل عام مصاحبة لعيد الأضحى، ففيه يكون حجاج بيت الله الحرام الذين قدر لهم الحج يحيون مشاهد حدثت من أسرة خليل الله إبراهيم عليه السلام؛ حيث تأكدت علينا كمسلمين في الرسالة التي جاء بها رسولنا الأكرم.
فإطلاق دعوة الحج الأولى قد كُلِّف بها سيدنا إبراهيم في نداء الله له:{ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } والطواف حول الكعبة الذي يطوفه ضيوف الرحمن لتأدية ركن من أركان عمرتهم وحجهم، أو تحية خاصة لبيته، أو وداعا لمن همَّ منهم بمغادرة الحرم عائدا إلى بلده بعد أن أتم عمرته وحجه، وفيه يقول ربنا:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ في هذا الطواف يستحضر مشهد بناء الكعبة الذي نفذه سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل – عليهما السلام – {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
ويمتثل من أنهى طوافه التوجيه الإلهي فيصلي ركعتي عند مقام إبراهيم متى تيسر له من أي موضع لايعيق طواف الطائفين:{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، ويتذكر الساعي بين الصفا والمروة إحياء لمشهد تردد أم إسماعيل صعودا وهبوطا بحثا عن قادم يحمل بعض ماء لوليدها الذي بلغ به العطش مبلغا، قبل أن تتفجر زمزم من تحت قدميه بماء لم تعرف الأرض في غير هذه البقعة مثله ولن تعرف حتى تقوم الساعة، ولم يكن سعي أم إسماعيل كسعينا، حيث كانت تسعى في حر الشمي ووعورة الصخر الذي ندركه عند نظرنا إلى ما بقي منهما في نهاية كل شوط نؤديه على أرض ممهدة وفي أجواء مكيفة وظل ظليل:{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}.
ورمي الجمرات إحياءً لمشهد من مشاهد هذه الملحمة التي سطرتها هذه الأسرة وهي في قلب المحنة، بل هو من أعلى مشاهدها التي لا يمكن أن يجسدها المبدعون في مجال الدراما مهما اجتهدوا، ففيه تسابق أهل هذا البيت في إثبات طاعتهم لخالقهم ومقاومة أشد محاولات فعلها اللعين إبليس على الإطلاق، الذي دخل من مدخل يصعب مقاومته إلا من بيت نبوة كثرة الابتلاء لربها حتى وصل إلى الإلقاء في النار فنجح في كل واقعة ابتلاء عظيم بشهادة من السماء نتلوها في كتاب ربنا، وفي هذا المشهد ينضم إليه في الابتلاء وحيدُه الذي بدأ يسعد بسعيه وأمه التي ابتليت بتركها في صحراء جرداء مع وليدها، فأيقنت بأن ربها لن يضيعهما وكانت خير عون لزوجها على طاعة ربه، وها هي تبلي الابتلاء الأشد فإن كانت في الابتلاء الأول ساعدها احتمال مرور أعراب يؤنسون وحدتها هي ووليدها وتجد معهم بعض أسباب البقاء من طعام وماء، فهي هنا مُقبلة على فقْد ولدها بالذبح ومشقة الابتلاء لا تدركها إلا أم شهدت ذبح ولدها وفلذة كبدها، ومع ذلك نجحت نجاحًا مُبهرًا، وهزمت اللعين بحصيات رمتها في وجهه، وإذا كان هذا هو شأن الوالدين وقد حسما أمرهما، فالأعجب هو موقف الذبيح، فهو الذي سيفقد حياته، وهو الذي سيعاني ألم الذبح وهو المقبل على الحياة، لكنه وفّى بما وعد به حين قال لأبيه معينا له على طاعة الله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فها هو يبرهن على صدق وعده ويرجم اللعين مبطلا مسعاه، لتكتمل قصة الابتلاء، وتُكلل بنجاح الجميع بامتياز لا مزيد عليه.
وبعد أن حزم الجميع أمره، وبدأت مرحلة الحسم ويبدأ التنفيذ، ثم تتدخل العناية الإلهية وتظهر نتيجة الابتلاء التي لم تخطر على بال أحد مهنم:{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وقد بقيت هذه الجائزة السماويّة في شريعتنا تنفذ على وجوه كثيرة، فعيدنا يُسمى باسمها ـ عيد النحر ـ حيث ينحر الحاج هديه، ويصلح فوات بعض الواجبات كالإحرام بعد تجاوز مكان الميقات، أو ترك رمي الجمرات، أو ارتكاب بعض المحظورات كلبس المخيط أثناء الإحرام، فتكون المحصلة ملايين من الرؤوس وما يصعب حصره من أطنان اللحوم يطعمها عامة الناس في كثير من أقطار المسلمين حيث تقوم جهات بالذبح، نيابة عن الحجاج الذين فضلوا شراء صكوكها وتفويضهم في الذبح نيابة عنهم.
وليس حجاج بيت الله فقط هم من شرع في حقهم الذبح هديا أو تكفيرا، ولكن عامة المسلمين شرع في حقهم الأضحية فهم يستقبلون عيدهم بالتكبير والصلاة ثم يشرعون في ذبح أضاحيهم كما فعل رسولنا – الأكرم –: «وَنَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا، وَضَحَّى بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ» وكما حدد كتاب ربنا وقت الذبح:{ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}.
ويتساءل الناس في مثل هذه الأيام عن كثير من الأمور المتعلقة بالأضحية كلحمها وشروطها ووقت ذبحها وكيفية قسمتها وتوزيعها، وهي من حيث المشروعيّة لا خلاف حول مشروعيتها بين الفقهاء، وهي سُنة عند جمهورهم وواجبة عند الحنفيّة، وبعيدا عن تفصيل آراء الفقهاء فهي مطلوبة باتفاقهم جميعا، وهي من القُربات التي يتقرب الناس بها في عيدهم، وثوابها عظيم حيث تكون بكاملها في ميزان حسنات فاعلها يوم القيامة، ويشترط في الأضحية أن تكون خالية من العيوب التي تنقص قيمتها لو بيعت كالعرج والعمى والمرض، فهي قُربة لله، والله جميل لا يقبل المعيب، كما يشترط أن تكون قد تجاوزت العام فإن قاربته وكانت وافرة اللحم كالتي بلغت العام فلا بأس من التضحية بها، وتحصل القربة بمجرد إراقة الدم، ولكن يفضل أن يقسمها أثلاثا، “ثلث لأهل بيته، ثلث للفقراء والمساكين، وثلث للأصدقاء والجيران ولو كانوا أغنياء”، ومن كثر عياله وقرابته، جاز له أن يجعلها بكاملها فيهم.
وأيام الذبح تبدأ من بعد انتهاء صلاة عيد الأضحى وتمتد إلى رابع أيام العيد، ولا يشترط أن يكون الذبح في يوم العيد، وبعض الناس يقدمون الذبح على يوم العيد فيذبحون يوم عرفة (الوقفة) ولا بأس بالتصدق في أي وقت، ولكن لا تُعد الذبائح التي تذبح قبل انتهاء صلاة العيد ولا بعد رابع أيام العيد أضحية، بل هي من الصدقات، ولا يجوز بيع أي شيء من الأضحية ولا يجوز دفع أجرة الذابح منها، بل يأخذ أجرته كاملة، فإن أراد المضحي بعد ذلك إهداءه شيئا من لحمها فوق أجرته فلابأس، كما يجوز لصاحب الأضحية الانتفاع بجلدها لنفسه إن أراد دبغه واستخدامه، فإن لم يكن في حاجة له تصدّق به على من ينتفع به أو على جهات البر التي تجمعها لتنفع بها الفقراء بأي كيفيّة، ويجوز بيع الجلد والتصدق بثمنه.
ويجوز لمن شاء أن يشتري صك الأضحية لتتولى الجهة التي تبيع هذه الصكوك الذبح والتوزيع نيابة عنه، ونظرًا لما نمر به من جائحة كورونا وإجراءاتها المُقيدة، فمن لا يتمكن من شراء الأضاحي وذبحها خوفا من تعرضه للإصابة بكورونا يجوز له التصدق بثمن الأضحية نقدًا حتى تزول الجائحة، فشريعتنا شريعة التيسير المرنة التي تناسب كل زمان ومكان، وتنفي الحرج عن المكلفين.. تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وكل عام وأنتم بخير.