السبت 23 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

الروائي واسيني الأعرج يروي تفاصيل يوم مولده

الروائي واسيني الأعرج
ثقافة
الروائي واسيني الأعرج
الأحد 08/أغسطس/2021 - 01:31 م

كتب الروائي الكبير واسيني الأعرج تدوينة مطولة، عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" حول ذكرى ميلاده، تحدث فيها عن لحظات ولادته في مثل هذا اليوم 8 أغسطس عام 1954، كما نشر مع التدوينة صورًا له بصحبة والدته، وجاء المنشور كالتالي:

الخامسة صباحا، إنه يوم الأحد 08-08-1954، صباح يوم عيد الأضحى، في مثل هذا اليوم اصطدمت لأول مرة بهذا الكوكب الملون الذي اسمه الأرض، في صباح عيد الأضحى. قبلها بقليل درت في بطن أمي دورات عديدة فوضوية غير مألوفة، قبل أن أستكين قليلًا، وأتيح لأمي فرصة أن تغفو قليلًا بعد تعب ثقيل.

العائلة تتحرك بسرعة في الحوش الواسع. جدي محمد يحضّر أضحية العيد، قبل ذهابه للصلاة في جامع العائلة الصغير؛ حيث يلتقي أعمامي وأبناؤهم الكبار. جدتي حنّا فاطنة تتحرك في البيت. تنظر إلى أمي التي كانت تتألم من شدة المخاض، لكن مرتاحة لوصول حنّا ربيحة، القابلة التي جيء بها من بيتها على الهضبة. يقال إن كل من وُلد على يديها، حمل قليلًا من صفتها: الغضب السريع. وأنا ما زلت في رحم أمي، أمزق الأغشية للتحرر النهائي والخروج. 

 

تدوينة واسيني الأعرج على فيس بوك 

 

أمي تقصص رؤيتها على حنا ربيحة وحنّا فاطنة وزوجة عمي أحمد، عمتي رحمة، وعمتي زينب، ونينوت وميميت، وغيرهن: الليلة هدف علي (جاءني) سيدي امحمد الواسيني الله ينعم علينا ببركاته، كان يمتطي حصابا أبيض رشيقا، يرتدي هو بُرنسا من الحرير الأبيض الصافي والناعم الذي يلمع تحت الأشعة كأنه فضة ويتجاوب مع أدنى هواء أو هبة ريح. في البداية سمعت دقا على الباب، ظننته ميما فاطنة تتهيأ للوضوء كعادتها. كان المخاض قد بدأني في شكل لسعات متواترة تحرمني من النوم المستمر. كثر الدق، فقمت من مكاني وذهبت نحو الباب الخارجية. فتحها. أصبت بالعمى والدوار للحظة، لم أرَ شيئا من شدة النور.

 أغمضت تلقائيا عيني ثم شيئا فشيئا بدأت أفتحهما. لم أكن خائفة لكني لم أكن مرتاحة. رأيت رجلا وسيما، طويلا، تغلب على ملامحه شقرة ساحرة، على وجهه ابتسامة هادئة كتلك التي نراها على وجه الصحابة. كان ممشوقا كرمح على حصانه. قال: هل عرفتني يا لالة أميزار؟ قلتُ: ومن لا يعرفك يا مولاي. سيدي امحمد الواسيني. ترجل ثم قبّل رأسي. قال: كنت أعرف أن حواسي لا تخطيء أبدا. جئت أبشرك بذكر، بعد بكرك محمد الذي سرقه الموت في شهره الأول، وخيرة، وزليخة، وزهور وحسن. ذكر، حلمت به ليستقيم أمرك في العائلة ويكبر شأنك. انحينيت تقول أمي، وكدت أقبل رجليه: من بركاتك يا مولاي. لكنه رفع رأسي بيديه الناعمتين كأنهما من ننور، ثم استقام أكثر وقال: يا لالة أميزار. عندي شرط واحد، أن يحمل هذا المولود القادم اسمي إلى الأبد ليستمر ذكري، وإذا لم يتم ذلك سأعود في آخر اليوم، وآخذه ثم أطير به بعيدا. قالت حنا فاطنة، وتبعتها حنا ربيحة: من بركات سيدي امحمد الواسيني.

 

بدأت أمي تتوجع، شدت على الحبل في السقف بقوة. نساؤنا في ذلك الوقت يضعن في وضع شبه وقوفي لتسهيل نزول الجنين. وضعت حنا ربيحة بين أسنان أمي قطعة كتان مرزايا أبيض، وطلبت منها أن تضغط عليها بقوة كلما شعرت بالألم. الجنين لا يخرج، صاحت حنا ربيحة، القابلة. الملعون كأنه انقلب ويريد أن يخرج برجليه. كدت أقتل أمي، لأن وضعا مثل يعني الموت المؤكد للجنين ولأمه. لحظتها حاولت حنا ربيحة أن تعدل من حالة الجنين بحركاتها التي تعرفها جيدا وحدها. ميراثها الكبير أن لا امرأة ولا مولودا ماتا بين يديها ابدا حتى وفاتها. هنا، على رأس دشرة جبل تيغراوْ لا مستشفى ولا أطباء، وحدها الأقدار تصنع الموت والحياة. النساء تلدن في البيوت، والكثيرات كنّ قابلات أنفسهن.

 

تضغط حنا ربيحة على بطن أمي وتدفع من تحت لتسوية وضعية الجنين. أمي تعرق وتتكتم صرختها بكتان مرزايا. تريد أن ترتاح. تصر حنا ربيحة: ليس الآن حتى تتعدل وضعية الجنين وإلا سيختنق. أخيرًا يأتي الفرج. قالت حنا ربيحة: يمكنك الآن لالة ميزار أن ترتاحي قليلًا.

بعد لحظات، تعاود أمي من جديد، تشد على الحبل وتدفع بكل قواها، فجأة تختلط صرختها بصرختي، تمد حنا ربيحة يدها، وتقطع السرة بالسكينة الحادة. أخيرا انفصلت عن أمي. مررت حنا ربيحة كتانة منداة بماء معطر بماء الزهر، على كل جسدي قبل أن تغسلني في إناء الماء الدافئ الذي أتتها به ميميت. ثم وضعتني داخل قماط أبيض كما عادة أهل القرية ولفت حوله خيطا من الصوف مختوما بودعات شنشنت عندما انتهت من تقميطي، ثم منحتني لأمي وهي تضحك:

- ها هو الواسيني اللي حب يخرج برجليه مش برأسه، ربي يجعل منه خيرا لأهله ولذويه ولكل من يريد خيرا للناس.

عذرا يا أجمل وأبهى خلق الله، عذرا يا أمي. ليس عيد ميلادي، لكنه عيد نجاتك من موت كاد أن يسرقنا بسببي، لهذا وحده أقبل كل تربة طيبة مشت عليها رجلاك، لهذا وحده أحملك في القلب حتى آتيك.

أبي هناك، في أراضي الغربة، في باريس وضواحيها. كان لديه ما يشغله، كما كل رجال ذلك الوقت، لا أعتقد أن أنينها وخوفها وصله، كان في غمرة العمل والاستمتاع بما يمكن أن تمنحه له حياة بلا قيود هناك.

عاد جدي من صلاة العيد، سمع الزغاريد، فأدرك أن المولود ذكر، قال: آتوني بالأضحية سأسميه على بركة الله: العيد. العيد، تبعا لتقليد المنطقة، من يولد في شهر رمضان، يسمى رمضان، من يولد في يوم العيد فهو عيد، ما بين العيدين، فهو بلعيد، ومن ولد في فصل الربيع فهو ربيع.. صرخت أمي: قولوا له يتريث حتى أقصص عليه ما رأيته في الحلم. عندما سمع قصتها، قال ليكن. ما دام الأمر يتعلق بسيدي امحمد الواسيني. سنسميه على بركة الله: الواسيني، وذبح الأضحية.

شكرًا يا جدي أنت اللي راسك عاصي، كما يُحكى عنك، قبلتَ من أمي طلبها ووافقتَ على رؤيتها ولم تسمّني العيدْ. ثم ماذا لو أسميتني العيدْ؟ أشياء كثيرة كانت ستتغير فيّ، لا أعرف ما هي ولا كيف؟ ربما كنت اليوم شخصًا آخر غير الذي أنا عليه.

لكل اسم قدر خاص وسر غامض، وأنا سعيد برؤية أمي وقدري.

لك قلبي يا أمي في هذا الصباح الذي نزلت فيه إلى الحياة. لروحك الرحمة والسلام. لم يتغير شيء فيّ طوال عمرك الجميل. فقد بقيت قريبا وأكثر إخوتي إحساسًا بآلامك العميقة. لم أكبر إلا قليلًا. بقيتُ الطفل دوما في عينيك، الذي تخافين عليه، وتوصيه كلما ركب سيارته، قبل أن تقبّليه في عنقه بحنان: لا تغب كثيرًا حبيبي. عد بسرعة. ولا تثق في البشر كثيرًا. خفّف من طيبك قليلًا، البشر ليسوا كما تراهم. أكاد أقول لها تربيتك يا أمي. طيبتي منك. ميراث قلبك السخي. لكنني أصمت.

تابع مواقعنا