هدَر.. قصة قصيرة لمرفت البربري
أيام قاتمات، معتمة المساءات، هاجر القمر عن سمائها إلى سماء لاتظلل أرضها، حزين فجرها بانَ عنه الخيط الأبيض بينونة مفجعة، تصرخ شمسها صرخات خذلان بعد أن حرمت عناق السحب التي رحلت جفاءً، ضحاها ثكلَ الفرحة، نهارها مقرح الجفن يتيم الوداد، يالأيامي الحزينة التي أعيشها، ينضُ عني ثوب العمر، فيجردني من أثمال كنت أظنها سترًا لشيخوختي وعَصَاةً يتوكأ عليها هِرمي، ومآرب أخرى من أنسٍ وودٍ وبِرّ.
عاث وباء كورونا فسادًا في الأرض فأهلك البشر، وغّلَّقَ الأبواب في وجه الرحمة والألفة، وكشّفَ عن قيح يملأ نفوسًا شائهةً لأشخاص كنا نعدهم ذخرَ أيامنا.
أنا رجل تعدى السبعين بأعوام قليلة، أتم الله فضلهُ ونعمهُ عليَّ بزينتيّ الدنيا المال والبنون، ومتعني بخير متاعها، زوجة صالحة، كانت حادية مشواري، شَدَّت بأزرِ عزيمتي، وظللت سماء خطوتي، نلتُ المال بغزير من عرق الجبين، وصبر ربطت به زوجتي بطن احتياجاتها، فلم تكن كالزوجات اللواتي يشبعن أزواجهن طلبات، كانت ترضى بقليل الرزق حتى زاد وبارك الله فيه، حرمنا أنفسنا من الاستمتاع في سبيل إشباع أربعة رجال وبناء مستقبل لهم، وكافأنا الله برؤيتهم كما نحب ونرضى، مراكز مرموقة وزيجات نفخر بنسبها، وأحفاد هم قرة عيني وعينها، وكان فضل الله عليَّ عظيما فأنا موفور الصحة رغم سنيّ عمري المتقدمة، لازلت كما كنت طيلة عمري، يوقظني آذان الفجر، أصلي وزوجتي بعد أن ترك الأولاد غرفهم إلى منازلهم، وبقيت وشريكتي نقتسم الأيام وبهجة صحبتنا، ثم أذهب إلى متجري الصغير، ولكن ذلك لم يرضِ رفيقتي، فكانت تلح عليَّ لإغلاق المتجر والمكوث في البيت، خشية أن يصيبني الوباء، لم أستطِع تقبل الفكرة، حاولت إقناعها بأن عملي حياة دونها الموت، هاتَفَتْ أولادي ظنا منها أنهم سيؤثرون علي لأغلق متجري حتى ينتهي الوباء.
تهشّم ظنها فما حدثوني ولا اهتموا لما كانت ترجوه، عذَرَت انشغالهم، فأعدَت لهم وليمة من أطيب ما يحبون من طعام ودعتهم لنتكلم في الأمر، مر اليوم ولم يلبِ أيُهم دعواها، هاتفَتهُم للاطمئنان عليهم، فسرقت كلماتهم الدماء من وجهها وألبسته شحوبا، أخبروها خوفهم من أن أكون حاملا (للفيروس) فتصيبهم مني العدوى إن هم خالطوني، خرس صوت الشيطان وفر هاربا أمام جحودهم، مرت أيام ليست بالكثيرة، اتصَلَت بهم لتخبرهم عن إصابتي وعزلي بالمشفى وأنها أصبحت وحيدة، هنا وقف الشيطان غير بعيد يترقب خيبتها، يقضم أصابع الندم لعدم مشاركته إياهم فيما يفعلون، فذنبهم خالص لنفوسهم، بعد ثلاثة أسابيع أنبأتهم بوفاتي، وتولي الحكومة دفني دون وداع، في كبدِ الضحى جاءوا يفتشون عن أوراق تثبت ممتلكاتي.
قال كبيرهم:
- سيكون منزل الضاحية لي، والمتجر يتشارك فيه أخواي الأصغران، والمنزل الآخر للأخ الأصغر.
سأل الأصغر:
- وماذا عن هذه الشقة ؟
قال الكبير متفضلا:
- سنترك الشقة لأمي تعيش فيها حتى حين، ثم نتقاسمها بعد ذلك.
جثم الوجع على أنفاس زوجتي، ووقف الشيطان ساخطا يندب حظه القليل من الشر، كانت آخر قشّةٍ قصمت ظهر الصبر على ما يقولون، كان النكران سيد الموقف، وتحدث الطمع بلا استحياء.
قال صغيرهم:
- ولكن بعد وفاتها لن يشاركني في الشقة منكم أحدًا.
تكسرت قدرتي على الاختباء، وانتفضت أنفاس حضوري تعلن أنني مازلت حيا، أخرجتهم من بيتي، ومن خافقي لفظت نبض كان بهم يحيا.
قلت:
- اخرجوا منها جميعًا فليس لى أولاد.. أتتقاسمون إرثي وتتمنون موت أمكم من أجل شقة؟
لثَمتُ شحوبها الصَموت بشفاه مودتي، فلاذت بمنكبيّ تٌخبئ فجيعتها، بعت كل ممتلكاتي، واختزنت ثمنها عند من لا تفنى خزائنه، فتبرعت بجل مالي لمرضى الوباء إلا من قليل استأجرت به بيت في قرية بعيدة، واشتريت عنزاتٍ أرعاها وزوجتي لنأكل من رعايتها، ربما منحتنا من الأنس والود والرحمة ما بخل به من تركونا نبكي على كتفِ الوحشة.
*****
يذكر أن مرفت البربري عضو اتحاد الكتاب المصري، عضو نادي القصة، عضو جمعية كاتبات مصريات صدر له من قبل قصص تائهة مجموعة قصصية ، ديوان خواطر همس الحواس، رواية خبز الملائكة، رواية على لهيب شمعة الفائزة بجائزة احسان عبد القدوس،
رواية نقوش على جسد ناعم، والمجموعة القصصية ري السراب مجموعة قصصية.