أوهام وأمراض المثقفين
"إن المثقفين في البلدان المتخلفة يعيشون عالة على المجتمع: حفنة ثرثارة تتحدث في النظري بعيدًا عن واقع وآلام الناس. القراءات الضحلة حوّلتهم إلى ممثلين كاريكاتوريين وأدعياء يرون العالم من أعلى".
بهذا الوصف القاسي حدد أحد أبطال رواية "الزمن المُوحش" للأديب السوري حيدر حيدر، جانبًا من أوهام وأمراض المثقفين في الدول المتخلفة، وهي أمراض ينبغي رصدها، وإبرازها، ومعرفة أسبابها.
ومن أهمها وأكثرها شيوعًا من وجهة نظري:
النرجسية المفرطة:
معها ينطوي المثقف على نفسه، وينفصل عن الناس والواقع، ليتأمل جماله وكماله وعبقريته في مرآة ذاته؛ ليصبح بعد ذلك ضحية صورته المُتخيلة عن نفسه، التي يحاول أن يقنع الناس بها، ويتصرف معهم على أساسها، رغم أنهم لا يرونها.
أوهام النخبوية:
هذا المرض وثيق الصلة بالمرض الأول ويترتب عليه. وتظهر تلك الأوهام عندما يتمركز المثقف حول ذاته، ويبالغ في تقديرها، وفي قياس حجم تأثيرها، فينفصل عن الواقع، ويعيش في برجه العاجي، ويتصور نفسه عقلية فكرية فريدة لم تأخذ حقها من الرعاية والاهتمام، ولم تعط الفرصة لإبراز قدراتها ومواهبها وأفكارها في حل مشكلات الواقع، وقيادة المجتمع والسلطة نحو أفاق جديدة.
الرومانسية الثورية:
يمكن أن نُطلق على هذا المرض اسم "حالة الطفولة اليسارية". وفيه يُحارب المثقف بسيف الخيال والكلمة ضد كل قوي المجتمع ومؤسسات الدولة، ويحلم بتحقيق تغيير ثوري جذري، دون أن يضع في اعتباره إمكاناته الفعلية وحجم تأثيره، وحجم مراكز القوى في الواقع وعمق تحالفاتها. ودون أن يراعي مقتضيات الواقع وقوانين المجتمع والعلم والتاريخ.
الازدواجية بين القول والفعل:
هو أكثر أمراض المثقفين شيوعًا، لأن أغلب المثقفين في بلادنا لديهم ازدواجية بغيضة بين ما يكتبونه وبين ما يحيونه ويمارسونه في الواقع؛ فهم يقولون ما لا يفعلون، ويدعون الناس إلى ما لا يؤمنون حقًا به، ويريدون أن يجعلوا من الثقافة أداة لتغيير كل الناس إلا أنفسهم.
فقدان الحس النقدي:
طبقًا للفيلسوف الإيطالي أنطونيو جرامشي، فإن سلاح المثقف الأساسي هو قدرته على نقد ذاته وتجربته، ونقد السلطة والمجتمع.
وعندما يفقد المثقف الحس النقدي، وتستلبه وتسيطر عليه بالكامل أفكاره وتصوراته الخاصة وخيالاته وأوهامه، أو تستلبه أفكار الايدولوجيا التي ينتمي إليها، يتحول من مثقف ناقد إلى عقائدي متصلب الفكر، يفتقد للقدرة علي مراجعة أفكاره وتطويرها، ويفتقد مؤهلات وأدوات النقد الإيجابي البناء للسلطة والمجتمع.
تلك أبرز أمراض المثقفين التي تؤثر على مصداقيتهم، وتقلل من فاعليتهم، وتفقدهم احترام المجتمع والسلطة.
أظن أن الوعي بها من البداية يُعطي المثقف الشاب الذي يريد أن يكون إنسانًا إيجابيًا فاعلًا في سياقه ومجتمعه، قدرًا كبيرًا من الواقعية والتواضع المعرفي، ويحفظ له طاقته الذهنية والعصبية وسلامه النفسي، ويجعله يتجنب كل مظاهر الفشل وخيبة الأمل وجلد الذات والعزلة عن المجتمع.