الجمعة 29 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

د. جمال فودة يكتب: الحكمة في قصيدة همسات قلب للشاعر صالح الفهدي

صالح الفهدي
ثقافة
صالح الفهدي
الإثنين 18/أكتوبر/2021 - 03:48 ص

إن تكثيف بنية دلالية ما في نص شعري يوحى بأنها ظاهرة متميزة ينسجها الشاعر في حالة وجدانية خاصة، حيث تنصهر هذه الدلالة في سياق التجربة، وبفعل إبداعية اللغة داخل النص تحمل إيحاءات ثرية تضفي على النص حيوية متجددة، وحضورًا لا يبلغه النص دون هذا الترابط بين مبناه ومعناه، وتلك إحدى ميزات العمل الفني الناجح.  

 

ومن ثم تسعى هذه القراءة النقدية إلى البحث عن الخصائص اللغوية التي تخرج النص الأدبي عن إطاره المألوف إلى إطار فني جديد، يتعامل مع الجملة باعتبارها تركيبة لغوية صوتية منسوجة بخيوط دلالية ونفسية، لتجسيد حالة شعورية معينة.

 

وهذا ما نجده عند الدكتور صالح الفهدي عندما يوظف الحكمة في قصائده، كأداة تعبيرية تسهم في كشف رؤيته لواقعه هذا من ناحية، كما تعين المتلقي على استكشاف أبعاد التجربة واستنطاق الدلالة من ناحية أخرى، وقد استطاع  الفهدي استغلال هذه البنية الدلالية استغلالًا أضحى واضحًا في إبداعه، وأصبح من الملامح الأسلوبية التي تشكل بنية النص في شعره.

 

يقول الدكتور صالح الفهدي في قصيدته همسات قلب  

نَرَىْ كُلَّ صُبْحٍ هُنَالِكَ فَجْرَاْ 

يُنَشِّرُ فِي الْأَرْضِ يُمْنًا وَبِشْرَاْ 

وَنَسْمَعُ صَوْتًا خَفُوتًا تَهَادَىْ 

مِنَ اللهِ: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَاْ 

فَنُؤْمِــنَ -إِيْمَانَ حَقٍّ-بِأَنَّاْ 

بِأَيـْدِي الْعِنَايَةِ عِلْمًا وَخُبْرَاْ 

وَأَنَّ الْإِلَـــهَ إِذَا اللَّيْلُ أَرْخَىْ

عَلَيْنَا السُّـــدُولَ؛ يُــدَبِّرُ أَمْـرَاْ 

فَنَزْدَادَ صَبْرًا إِذَا اشْتَدَّ خَطْبٌ 

وَنَحْشُدُ مِمَّاْ تَجُودُ الْعَزَائِمُ صَدْرَاْ 

عَلِمْنـَــــاْ بِأَنَّ إِلَهـــــــــًا عَظِيْــــمًا؛ 

يُرِيــْـــدُ لَنـــَــــا الْخَيْرَ سِرًّا وَجَهْرَاْ 

وَإِنَّاْ لَنَعْجَزُ عَنْ عِلْـــــمٍ غَيْـــــبٍ 

خَفَــــاهُ الَّذِيْ هُوَ بِالْغَيْبِ أَدْرَىْ 

إِلـــــَـهٌ سَمِيْعٌ لِنَجْـــــوَىْ عِبـَـــــادٍ

رَفِيْعٌ؛ إِذَاْ حَـــطَّ دَهْــــــرٌ وَأَزْرَىْ 

حَفـِـــيٌّ بِخَيْـــــرٍ؛ وَإِنْ كــَــانَ مِمَّــاْ 

يــَـــرَاهُ الـْـــوَرَىْ فِي الظَّوَاهِرِ شَرَّاْ 

يُنَغِّـــصُ فِي الْبـَـــدْءِ عَبْدًا قَنُوطًا 

وَيَحْسَــــبُ مَاْ قَدَّرَ اللهُ ضُــــرَّاْ

وَحِيْنَ يُكَشِّفُ عَنْهُ الْحِــجـَـــابَ؛ 

يَرَى الْيُــسْرَ فِيْمَاْ تَوَهَّمَ عُسْرَاْ! 

هُوَ الْخَيْرُ فِيْ كُلِّ عُقْبَــــىْ قَضـَـاءٍ 

هُوَ اللهُ بِالنَّفْــــعِ أَوْلـَىْ وَأَحْـــرَىْ 

فَاِرْفَـــــــعْ إِلَيْــــــــهِ يــَــدَاكَ إِذَاْ مَاْ 

أَلَمَّكَ خَطْـــــبٌ فَـأَسْقَــــــاكَ مُرَّاْ 

تَضَرَّعْ إِلَيْــــــهِ بِقَلـْـــــبٍ مُنِيْــــبٍ 

وَقُلْ: يَاْ إِلَهِــــيَ؛ يُجِلُّـــــكَ قَدْرَاْ 

يُحِيْطُكَ حُبًّا، وَيُوْلِيْكَ سَمْعــــــًا

وَيَقْضِيْ لَكَ اللهُ مَاْ شـَــــاءَ أَمْرَاْ 

 

 يعكس النص السابق حركة تقابلية تمثل آصرة نفسية، إذ تجمع بين الأمل واليأس، ومع ذلك يستقطب هذين النقيضين محور واحد هو النفس البشرية، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَاْ؛ وبين استيحاء الدلالة واستيحاء عكسها تكمن المفارقة، وتنمو وتتشابك وتتفاعل، مما يجعل النص قادرًا على البث المتجدد؛ لنصل لدرجة اليقين بِأَنَّ إِلَهـــــــــًا عَظِيْــــمًا؛ يُرِيــْـــدُ لَنـــَــــا الْخَيْرَ سِرًّا وَجَهْرَاْ

 

 إن التقابل ـ هنا- قائم على شعور نفسي عميق بحسن الظن بالله، والتسليم لأمره، والرضا بقضاه، ومن خلال ثنائية  الأمل واليأس  التي تضرب بجذورها في صميم الوعي الإنساني، يعرض الفهدي لدواعي الأمرين، ليستشرف أملًا بين ثنايا اليأس، ويلتمس قبسًا من نور خلف المحاق والدجى الذي لا بد أن يتبعه انبلاج الفجر. 

 

فالحياة تجربة لا بد أن نعيشها بحلوها ومرها، وبهذه النظرة التأملية للحياة يدعونا الشاعر إلى التفاؤل والأمل والابتعاد عن التشاؤم بأسلوب فلسفي تأملي.

 

   تبدو القصيدة حافلة برموز إيحائية ودلالات نفسية، واستبطان لخلجات الوجدان وومضات الفكر، ذلك أن الشاعر مادامت قد أصبحت له رؤية خاصة في إطار تجربته، ومادام يستعين باللغة الإيحائية وليس باللغة المعجمية وسيلة للكشف والتعبير، فإن اللفظة تتجاوز معناها المعجمي إلى دلالة خاصة تتسق ورؤية الشاعر.

 

   إن بنية الدلالة تتنامى لتخلق على مستوى التركيب تقابلًا يتخطى ظاهر اللفظ إلى باطنه، ينزع هذا الغلاف الخارجي فيصل إلى جوهر الدلالة، ليبرز لنا هذا التقابل:-

 

رَفِيْعٌ؛ إِذَاْ حَـــطَّ دَهْــــــرٌ وَأَزْرَىْ 

حَفـِـــيٌّ بِخَيْــــرٍ؛ وَإِنْ كانَ مِمَّــاْ 

يــَرَاهُ الـْوَرَىْ فِي الظَّوَاهِرِ شَرَّاْ

 

 فالمقابلة في هذا السياق تثرى الحركة المطروحة على مستوى النص، حيث لا تتأتى للفرح بهجته إلا من خلال إطار الحزن الذي يغلفه ويحيط به، ولا يكتسب الأمل دلالته إلا من خلال السياق الذي ورد فيه اليأس.

 

ونلاحظ أن إنتاج الدلالة يتم في وسط زمني ينتمي إلى المستقبل من خلال مجموعة المضارعات نَرَىْ، يُنَشِّرُ، َنَسْمَعُ، نؤْمِــنَ، يُــدَبِّرُ، نزْدَادَ، نحشُدُ، تَجُودُ، يُرِيــْـــدُ، نَعْجَزُ، يــَـــرَاهُ يُنَغِّـــصُ، يحْسَــــبُ، يُكَشِّفُ، يَرَى، يُجِلُّـــــكَ، يُحِيْطُكَ، يَقْضِيْ.

 

تتحرك الصياغة حركة مزدوجة، حيث تتعلق بالماضي من خلال الأفعال أرخى، اشتد، علمنا، أخفاه، أزرى، آلمك، سقاك وتشده إلى المستقبل، فتخلق بهذه الازدواجية معادلًا يوازى تجربتها خارج إطار الزمن، وهي تجربة تجمع بين الذات وموضوعها في لحظة مطلقة تختل فيها العلائق التي تربط بينهما، أما المعادل فهو الارتداد إلى واقع زمني لاستعادة علاقة مفرغة من هموم الواقع، علاقة تشكل عالمًا من الأمل والتفاؤل وبث الطمأنينة في النفس وزف البشرى بأن القادم أفضل.

 

ولا نغفل استدعاء الخطاب القرآني بالاتكاء على بعده الدلالي من ناحية، وبعده الصياغي الخالص من ناحية أخرى، في قول الشاعر إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَاْ يمتص الخطاب القرآني في إطار من القداسة التي تكسب الخطاب الشعري نوعًا من التعالي والسمو، وتمنحه قدرات إضافية ليمارس فاعليته في التعامل مع النص.

 

كما أن تجاوز إطار التناص إلى فلك التنصيص يقتضي تخليص النص الغائب من بنيته الأصلية ليصبح جزءًا أساسيًا في بنية النص الشعري يقوم بدوره في إثراء وتعميق الرؤية الشعرية.

 

 وربما كان التنصيص هنا مقصودًا؛ إعلانًا عن نص قرآني استفاد منه الشاعر في بث نوع من القداسة داخل خطابه؛ فيكون أقرب إلى الاستشهاد منه إلى التناص.

 

إن شعر الحكمة عند الفهدي ليس مجرد خطرات فكرية اهتدى إليها بتأملاته وتجاربه، بل وعاء انصهرت فيه ثقافته وشخصيته، فكانت خير منهل ارتوى منه وصدر عنه إنتاجه الشعري، فعبر عنها تعبيرًا إنسانيًا من الناحية الفكرية والأدبية، حيث كان يزاوج بين العقل والحس، وتميزت قصائده بكونها وليدة الوجدان والفكر معًا، فهي تزخر بالمعاني الدقيقة، وتنضج بالعاطفة، وتزدهي بالإيقاع الموسيقي المنتظم، الأمر الذي جعلها تجمع بين قوة الإقناع وجمال الإمتاع.

تابع مواقعنا