زكي نجيب محمود والشيخ الشعراوي..!
الراحل الدكتور زكي نجيب محمود، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، وأحد أهم المفكرين المصريين، وأكثرهم حضورًا وفاعلية وخصوبة في الانتاج الفكري في النصف الثاني من القرن العشرين.
وهو صاحب الكتاب الشهير "خرافة الميتاقيزيقا"، الذي أصدره في بداية حياته الفكرية، بعد عودته من بريطانيا وحصوله على الدكتوراه، حين كان يتبنى أفكار "مدرسة الوضعية المنطقية".
وقد أثار هذا الكتاب جدلًا كبيرًا، وهجومًا عليه من الدوائر الدينية، حتى إنه اضطر في طبعاته اللاحقة أن يجعل عنوانه "موقف من الميتافيزيقا".
كما أنه تطور فكريًا في مراحل لاحقة من حياته، واتخذ موقفًا مغايرًا من الدين والقضايا الميتافيزيقية، وقد عبر عن هذا الموقف بوضوح في أخر كتابين له؛ كتاب "رؤية إسلامية" وكتاب "حصاد السنين".
أما الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي فغني عن التعريف، فهو رجل ملأ الدنيا وشغل الناس، اقترب من السلطة، وعمل وزيرًا للأوقاف في عهد الرئيس السادات، واحتل مكانة كبيرة في المشهد الديني المصري والعربي، ولا يزال لليوم يتمتع بحضور طاغٍ في قلوب الملايين.
وقد دارت بين الرجلين معركة فكرية شهيرة في منتصف ثمانينيات القرن، تستحق أن نروي بعض تفاصيلها، وأن نقف على أسلوبها ولغتها ومآلاتها.
بدأت تلك المعركة عندما صرح الدكتور زكي نجيب محمود بأننا ممتلئون حقدًا على الغرب لأنه يملك العلم وأدوات الحضارة، بينما نحن لا نملك إلا مجموعة من الكتب التراثية القديمة التي لا يرتبط معظمها بالعصر الذي نعيش فيه.
وأضاف نجيب أن حقدنا هذا ناتج عن عجزنا الحضاري، والعاجز لا بد أن يحقد، وأن يدعي في نفسه تميزًا متوهمًا بما ليس فيه على الحقيقة.
وضرب الدكتور زكي نجيب محمود مثلًا على ذلك بما فعله الشيخ محمد متولي الشعراوي حين سخر من الحضارة الغربية في إحدى حلقات برنامجه الأسبوعي الشهير لتفسير القرآن الذي يذيعه التليفزيون المصري، عندما سخر من الحضارة الغربية ومنجزاتها العلمية، فقال: إنهم في الغرب فرحون بصعودهم إلى القمر، فما قيمة ذلك؟! وأخذ الشيخ من علبة المناديل الورقية التي أمامه ومنديلًا وهزه في الهواء وقال: "هذه الورقة أنفع من الوصول إلى القمر".
وقد استفز هذا التصرف الدكتور زكي نجيب محمود، صاحب العقلية العلمية المنطقية المتميزة، فتصدى لبيان تهافت هذا القول موضحًا أن الشيخ الشعراوي هو أول المستفيدين من الصعود إلى القمر؛ لأن إحدى النتائج الفرعية لهذا الصعود هي الأقمار الصناعية التي تنقل أحاديث الشيخ إلى العالم كله.
كما أن الشيخ يجلس أمام كاميرات التليفزيون فيدخل ملايين البيوت، والتليفزيون هو نتاج العلم والحضارة الغربيين. ولو كان الشيخ جادًا بالفعل، ويعتقد أن العلم الغربي لا يساوي منديل الورق - الذي هو أيضًا اختراع غربي- فكان عليه أن يرفض الجلوس أمام الكاميرا، ومقاطعة المنجزات التكنولوجية للعلم الغربي.
تلك هي أهم ملامح المعركة التي دارت بين الشيخ محمد متولي الشعراوي والدكتور زكي نجيب محمود، وفي ذروة حياة ونجومية وقوة الشيخ الشعراوي.
وقد انتهت بتصالحهما بعد سجال وجذب وشد طويل، حتى أن الشيخ الشعراوي قام بعد ذلك بزيارة الدكتور زكي نجيب محمود في مرض موته، تعبيرًا عن تقديره له، وصفاء الأجواء بينهما.
ولو تأملنا في جوانب تلك المعركة الفكرية لوجدنا أن موقف الدكتور زكي نجيب محمود، كان هو الأقوى والأكثر إقناعًا؛ لأنه يقوم على مبدأ رفض دغدغة أوهام الذات العربية والمُسلمة المُتعلقة بتميزنا الروحي والديني على الغرب المادي البعيد عن الروحانيات والدين؛ لأن هذا الخداع يمنعنا من إدراك جوانب القصور العلمي في حياتنا، والسعي للحاق بركب الحضارة الإنسانية كمنتجين فاعلين، بدلًا من أن نظل عالة على الحضارة الغربية ومنجزاتها العلمية والتكنولوجية، ونظل نعيش في العالم عيشة الغافل في جنة من الأوهام والتصورات الزائفة عن الذات.
ورغم قوة موقف ومنطق وحجة الدكتور زكي نجيب محمود، فقد كان في منتهى الرقي الفكري والأخلاقي في إدارته لهذا الاختلاف في وجهات النظر، وفي تعبيره عن رأيه الخاص، دون تجريح ودون إساءة لشخصية الشيخ الشعراوي وأتباعه.
وهذا درس يجب أن نتعلمه جميعًا عندما نتصدى للنقد والكتابة في الشأن الديني والفكري والثقافي والسياسي؛ لأن كل تجريح وتجاوز في النقد، يتأسس في الحقيقة على رؤية ومنهجية مشوشة، ويُعبر عن ضيق أفق صاحبه، وضعف منطقه وحجته، وبعده عن أخلاق وتواضع ولغة العلماء.
كما يُعبر عن عجزه عن إدراك أن لا أحد مهما كان علمه وموضعه يمتلك الحقيقة المطلقة، وأن للحقيقة والإنسان دائمًا وجوهًا كثيرة، تتعدد بتعدد زوايا النظر إليهما. وأن من تلك الحقائق ما هو مطلق وثابت بطبيعته ونطاق وجوده، ومنها ما هو نسبي ومتغير.