قصة الفن والتأويل في أعمال حميدة صقر
في الصباحِ ما دام كان الصباحُ ابنَ الليل، وفي بدايات العام ما دام كانت البدايات أروعَ، وفي ساعة من يوم بكر يودع القمرُ فيها سماء ليبيا ويترك مكانه للشمس أمِّ الكون ومشعلةِ الهمم والحواس أجلس قُبَالَةَ ساحل طرابلس الليبي أحتضنُ البحرَ واتنسم رائحةَ اليُود والسمك المسافر أبدا وأطل على الجانب الآخر تاركا لعيني حرية النظر ولروحي مطلق التشوف، أنا لا أحب البرد لكنني أفهمه وأستوعب رعشته، يهزمني دائما وأفرح بالهزيمة بل وأعانقها، جسدي ينتفض إنني مازلت حيا أحس وأشعر وأرتبك كصبي رأى للتو فتاة عاجية تبتسم له، أفتح هاتفي وذاكرتي العميقةَ وأتصفح ألبوم اللوحات الذي حفظته لحين لحظة الكتابة، ما الذي تريده الألوان مني وما الذي فعلته الحوادث حلوها ومرها بنا ماذا يقول الخط الممتد المتلاشي والحركة العابرة المقيمة والانحناءة التي لا تكاد ترى، أتذكر مصر ومتى غابت لأتذكرها أرى البحر أمامي نيلًا يدعوني إلى كوب القهوة الذي عهدته معه، أرى كراستي وقلمي على الطاولة هناك وأرى أصابعي معهما تنقر الطاولة وتستعيد لحنا قديما من أيام الدراسة الأولى، أتذكر أخي المتوفى وهو يصطحبني معه للعمل والبحر لأول مرة وأصدقائي الذين ذابوا في ملح الطريق، ثم وفي رمشة طرف أنساهم جميعا وأسبحُ ثانية في الألوان.
المحنة سيدة الروح ومعلمها وكاشفة القوة والضعف فيها، أظن أن الفنانة الليبية حميدة صقر تتفق معي في هذه النقطة وأظنها من الذين يمجدون المحن ويمتحنون أنفسهم دائما فيها. أمامي مجموعة لوحات بعنوان الحكمة. ولمَ الحكمة تحديدا وما الذي يعبر عنها هنا في هذه اللوحات، طيور سود في فضاء أزرق صارخ أحيانا وهادئ أخرى وفضاء أبيض بياض المخيلة الأولى قبل أن تزدحم، أو ليست الحكمة ضالة المؤمن كما ورد في الأثر وهذا يعني تتبع الإنسان لها ولمواطنها وبلادها وأعشاشها الوعرة والسهلة أوليس الطير هنا جوابا جوالا لا يكاد يستقر في موطن حتى يغيره إلى موطن آخر من هنا نتلمس رمزية الطير وعلاقته بالحكمة وكأنه الحكمة ذاتها وعلينا أن نسعى لاصطيادها ومحاولة الظفر بها عبر الرحلة والمعاناة الوجدية والعقلية إذ أن الحكمة هي كمال كل شيء من معرفة علمية وعملية، وفي قديم الأزمان وبينما يَقْتَتِلُ الأخوان ويَمُوتُ أحدُهما ويروِّي بدمه الأرض العذراء نبتتْ شجرةٌ يسيلُ منها كلما جُرِحَتْ سائلٌ أحمرُ هو دمُ الأخوين. تُرك الأخُ في العراء ولا يعرف أخوه القاتل ماذا يفعل. فكان الطائرُ كان الغرابُ وحطَّ على الأرض وبدأ في تجهيز القتيل ودفنه وهكذا تعلَّمَ القاتلُ شيئا لم يكنْ من قبلُ مذكورا تعلم فضيلة تكريم جسد الميت. جاءت اللوحات هنا في صميم الأسطورة وجاء لون الطير أسود لأن الحكمة سوداء وما النور الذي نحسه ونشعره فيها إلا صداها فينا ومغزاها، كما يفعل الظلام بنا إذ يُوَلِّد فينا نورا لم نكن قبل ندركه ولو في بروج مشيدة من نور ونار. الطير أسود وما يحيطه من فضاء أزرق مرة كسماء شفافة وأبيض أخرى كالجليد ورتوش من رماديٍّ وأصفر وأسود تتوزع على اللوحات بقدر معلوم ومدروس بعناية، تمثل التفاصيل التي لا غنى عنها لتسجيد فلسفة العمل وبلاغته.
في كتاب قديم قرأته لأحد فلاسفة الأديان وهو (باول أولترامار) يقول: إن الحكمة أشمل وأعم من الدين، لأن الحكمة لا تستثني أحدا إنها للجميع. وفي القرآن الكريم يقول الله عز وجل(.. يُؤتي الحكمةَ مَنْ يَشاء..) وهي هنا اصطفائية تستوجب إنسانا ذا عقل وقلب سليمين يُكَلَّلُ بها مكافأة للسعي الحثيث والتجريب الصادق المُضنِي.
الأزرق لون السحر والبحر والنار الخالصة لون فبراير المفضل وكنانة الألوان ومُغرِِي الأنهار والجداول بعناق المحيطات. وآسر قلوب الرجال الممتحنين بالحب والمعرفة، والأبيض لون البداية والنهاية أيضا لون الموجة الذائبة وطفولة السحب والغرائز والنوايا ويدُ موسى القوية بعد خروجها من جيبه. عن أي شيء يبحث الطائر في اللوحات وإلى ماذا ينظر في الأعالي وأمامه، ولمَ يُطرِقُ ساهما باتجاه الأسفل، ولماذا دائما متحفز وحذر،
أعلى غصن سقط من شجرته يقف أم على موجة أم على تلة تشرف على وادٍ فسيح أم على بقعة صفراء في صحراء هجير. إنه في كل هذه جميعا والعالمِ بأسره، وهو الحكمةُ الكونيةُ التي تحاول أن تفسر نفسها وكلما فعلت وظننا أننا قبضنا عليها تبدلت شكلا وهيئة وروحا فإذا بنا نطاردها ولا نصل وإذا به يتبدل ويتغير ويتطور فلا الطائر يملُّ ولا الحكمة تنتهي ولا نحن الواقفون متأملين أمام اللوحات نرتوي إلا بالقدر الذي يصلنا أو نصل إليه عبر اللون والخط والمنحنى.
كتلة سابحة مكبلة وثقيلة ثقل المعرفة ومتحركة ورشيقة رشاقة الريشة في الهواء، مكثفة كتاريخنا المهجور ومسترسلة كحواديت الشتاء الليبي الطويل، ومشحونة كأنفاس الحروب الملتهبة.
أووه هل قلت للتو الحروب. هل تذوقتَ كما تذوقتِ الفنانةُ نارَ ولهيبَ الحرب، وهل ملأتَ رِئَتَيكَ رائحةُ البارود وهل ميَّزتَ كأصغرِ طفلٍ وفتاةٍ في ليبيا بين نوع الأسلحة من خلال الطلقات، وهل زاركَ الكابوسُ اليوميُّ وهل فقدتَ عزيزًا فيها.
إنك إذ تتأملُ معي منحوتة (المحاربة) وكيف أنها تبدو كتلةً نصفيةً لمحاربةٍ لم تُبق منها الحربُ ولم تذر، فنحن نرى خوذةً محكمةً فوق رأسٍ غارقةٍ في التداعي مربوطٌ طرفاها بالذقن الأنثوي الذي كان قبل أن تفقده الحرب أنوثته وبهاءه فلا نكاد نعرف من يحتمي بالآخر الوجه أم الخوذة.
العيون مسبلةٌ مُجَرَّحَةٌ لم يَتَبَقَّ غيرُ جُزءٍ ضئيلٍ من العين اليُسْرَى بالكاد يكفي لِتَلَمُّسِ طريق العودة، أهي من المُشَاةِ الذين نُسُوا في الصحراء أو من سلاح الجوّ وقد أُصِيبَتْ طيارتها فقزت بمظلةٍ لم تتحمل ثِقَلَ الوجع والخسارة فَتَلَفَتْ قبل الهبوط الآمن، أم من سلاح المُرَاسَلاتِ وقد حارتْ بأيِّ الجهاتِ تبدأ إلا أنها ظلت تركضُ وتركض حتى فقدتْ أقدامَها في الطرقات أو بمعنى أدق أصبحت قدماها الطريقَ، لا يهم كل هذا إنها برواية أخرى امرأة ليبية تريدُ بكل وضوح وجسارة أن توصل رسالة تقول: إننا نحن النساء نقاتل ونكافح في كل الجهات إنها كامرأة تُوَجِّهُ صرخةً مدوِّيةً عبر هذا التشكيل مفادُها أن المحاربةَ الليبية بنتَ أبيها الساحل وأمها الصحراء وحفيدةَ عمر المختار والمجاهدة فاطمة عثمان، تسعى جاهدة في كل الاتجاهات مطالبةً بثأر أخيها وأختها وأبيها وأبناءها الليبيين الذين فُقدوا في الحرب، والذين مازالوا في الطريق تفترسهم طاحونة الحياة اليومية، سلاحها في هذه الحرب هو القلم والفرشاة سلاحها الفن ما دام كان للفن تأثير وسطوة يفوق سطوة المدافع والبنادق المأجورة. تلك إذن معادلة سهلة ممتنعة، يسهل تصورها وتمتنع تجربتها وتلوح في الأفق هذه المحاربة وحدها عارية من السَّنَدِ والدليل والمُتَّكأ.
أوووه أيتها المحاربة لقد آن أوان البعث وإشفاء الجروح وجاءت لحظة التكريم وإننا بهذا العمل الفني نهتف هل سقط الوطن هل بُعث الوطن هل انتهت الحرب عند هذا الحد أم بدأت. لكننا بكل تأكيد نسمع صوتها آتٍ بعزم وإصرار: وطني يُبعَثُ من جديد، ليبيا هنا تحتَ خوذتي وعلى كتفيّ وفي صدري مدوا أيديكم بوقارٍ وعِفَّةٍ وقداسةٍ وانفضوا عن قلوبكم الحقدَ والطمعَ والفسادَ وسلموا عليها وامنحوها السلام.
فكما نرى تكتنف الأعمال مسحةٌ من غموض يليق بموضوعاتها فالحكمة بما أنها لا تستثني أحدا فهي أيضا هبةٌ وأُعطِيَةٌ من عطايا الإله يهديها من يشاء، وتكللها روح التناغم والتجاور بل والتراتب الضمني والمعلن في مثل هذه التجربة، مسْحَةُ شوقٍ وطوْقٍ لما وراء الظواهر ومخاطبة المطلق المحجوب بالصور والتصورات _ صوفية الحكمة وتجرُّدها ولا نهائيتها_. وهنا تأتي الكتلة مهما تغير شكُلها أو لونها ليّنٌة خاشعة ذائبة متداخلة في بعضها كأنها على تعدد أحوالها وأشكالها جسدٌ واحدٌ يسبحُ في فضاء الروح المطلق، أو ذراتٌ وجواهر متباينة تتوحد سابحةً مهاجرةً هجرةَ سمك السالمون من موطنه الأول إلى موطنه الأخير عبر رحلة يتعمد فيها بالماءين البحر والنهر عبر مناجاةٍ وصلاةٍ تلحُّ بأدبٍ وخشوع في التقرب غيرَ منقطعةٍ الرجاء ساعيةً بحرية ووجْدٍ عبر قطيع الخطوط والانحناءات والإيماءات والألوان التي تنطق بها اللوحة ويفشي سرَّها التأويل.
ثم يكونُ من بعد ذلك الأملُ والنور ومما يأتيان إذا لم يكنْ من روح محبةٍ للحياةِ مجربةٍ خَبَرَتْ قيمةَ الجمالِ ومنحتْها العنايةُ قُوَّةَ وقُدرَةَ (القلقِ العميق على الطبيعة والوجود). والأملُ دربٌ من دروب الحكمةِ أيضا فيأتي مكتحلا بسوادِ الليل ودَلَالِ المصابيحِ الريفيَّةِ القديمة. في حوار للفنانة مع إحدى الصحف الليبية قرأتُ ردَّها على سؤال حول اللون الأسود وكان الجوابُ أنها منذ فترة تعتبرُ الأسودَ لونَها المُفَضَّلَ والمُعَبِّرَ عما بداخلها واعتبرتْهُ مصدرَ الضوء.
يا للهول ويا للمغامرة الكبرى ويا لمفارقات الحياة، إنَّنا ورغم الحكاياتِ والحواديتِ التي تملَأُ أسْماعَنا وعقولَنا لا نفهمُ كثيرا كيفَ يُبعَثُ الإنسانُ من رمادِ هذه الحكاياتِ القديمَةِ ولا نفهمُ كيف تنقلبُ الخسارةُ في أحيان كثيرةٍ إلى مكسبٍ والهزيمةُ إلى انتصارٍ كبيرٍ والظلمةُ إلى نورٍ والثلجُ الرابضُ على صدورنا الهَشَّةِ إلى نارٍ مُقدَّسَةٍ، لكننا بعد التجريب ومُعَايَشَةِ المصائِرِ والتَّذَوُّقِ نعرفُ ونفهمُ ويَتَأَكَّدُ لنا قولُ الصوفيّ الكبير:(مَنْ ذَاقَ عَرَفْ)* لكنَّ مُعظَمَنَا ينسى ويَتَطَيَّرُ ويُفجَعُ من أقلّ الكروبِ والمضايقات وينهارُ كَبُرجٍ حمامٍ رَمْلِيٍّ بناهُ طفلٌ على شاطئٍ مُكتَظٌّ بالمُصَيّفين، فيأتي الفنُ ويأتي دَوْرُهُ الجليلُ في مُعالَجَةِ الأحداث والحوادِثِ ويَمْسَحُ بِرِفْقٍ على هذه الأرواح والنفوس والصدورِ الهشَّه، ويَمُدُّ يدًا ناعمةً طيبةً لهؤلاء المُتْعَبينَ ويدًا أخرى خَشِنَةً قويةً حَدِيدِيَّةً مُتَوَعِّدَةً لمن أتْعَبُوهُم وكَدَّرُوا حياتَهُمْ.
في لوحة (الأمل) لا نرى شيئا من الأمل لكننا نرى كتلةً سوداءَ زعلانةً من الدنيا ومن فيها خجلةً مكسورةَ الجناحِ من الخذلان ومتشحةً بالسواد ومع النظرة الأولى يبدو لنا المشهدُ سوداويا كأنَّهُ حالةُ حِدَادٍ ممتدةٍ، الفتاةُ حزينةٌ مما يجعلها أشهى وأصدقَ وأكثرَ جَمَالًا كعادة النساء (ويَصِرنَ أجملَ حِينَما يَبْكِينَ) كما يقول نزار، شَعرُها مَفْرُوقٌ ومُسْتَرِيحٌ على الكتفين، عينها اليُسْرَى مفتوحةٌ ونقيَّةٌ ومتحدِّيَةٌ وواضحةٌ كَشَمْسِ الظَّهِيرَةِ، وعَيْنُها اليُمنَى يَكّسُوها غَبَشٌ واحمرارٌ كأنها لم تنمْ منذ سنينَ طويلةٍ _أو رُبَّما ما نراه عليها ليسَ إلَّا هَالَةً كالتي تُغَلِّفُ الشمسَ والقمرَ وقْتَ اكتمالهما_، وَجهُهَا صامتٌ مُتَجَهِمٌ قَليلًا وفي وملامِحها صلابةُ الجبالِ ورِقَةُ الزينون، وبقايا من زُرقَةٍ تسْتَقِرُ على جانب خَدِّهَا ومُلْتَصِقَةٌ بِشَفَتَيْها المُغْلقتينِ كرِسالةٍ لمْ تُقْرَأْ بَعدُ، ترى ماذا تكون هذه الزُّرقَةُ إذا لم تكنْ كَدمَةٌ من كدمات الزمن الصَّعب.
وهكذا يمتدُّ الأسود ويسيطِرُ على كامل اللوحة لكننا حينَ نَقِفُ في مواجهتها وحين ننسى ولو لِوَهْلَةٍ كُلَّ ما تعلمناهُ وعرفناهُ حولَ اللون الأسود وتداعِياتِهِ سَنَلْمَسُ النورَ السَّارِي في هذا البَدَنِ الأسود سنرى شَريطًا أبيضَ يأتي من أعلى يمينِ الفتاةِ وينسابُ كَزَخَّةِ مطرٍ لطيفةٍ على جانبِ رأسها ويمتَدُّ إلى آخر بقعة لون في جَسَدِ اللوحةِ الحَيِّ، إنه الأملُ وشريطُ الأحلام الذي نَجَا من وَحشِيَّةِ العالم ومادِيَّتِهِ المُفْرِطةِ، إنه العَزاءُ الأبَدِيُّ البكر الذي تَخْتَزِنُهُ الفنَّانَةُ نفسُها ممثلةً في الفتاة في أعمقِ نقطةٍ في جوفها وليس أنسبَ من هذه الحال لتستدعِيَهُ وتتشبثُ به وتعلنه لنا على مرأًى ومَسْمِعٍ منا نحن الخائفين المحاصرون بالفشل والهزيمة والخوف القاتل لتقول لنا ماذا ظننتم بي إنني الأمل المرجُوُّ والتحدي والصلابة المُتجسدة في لحم ودم بشريٍّ أنا ابنةُ النور والنار وأنا المصباح القديم والحلم المتبقي ومَصلَ الشِّفاءِ من الخرافة والظلم. وانا الشكُّ المقيمُ، أنا الأسود القادمُ من ينابيع الضياءِ لأعلمكَم وألُهِمَكُم وأُنزِلَ السكينةَ واليقينَ على قلوبكم الغفل الحَيْرَانَةِ، أنظُرُ إليْكُمْ وأنادي عليكم بفمي المغلقِ وإحساسي المتوهج وأنا أضُمُّ ذِراعَيَّ اللتين غابتا عن التصوير لأمنحَكُم فرصةً للتأمُّلِ وفُسْحَةً من التَّخْيِيل.
فكم أنتِ صارمةٌ معنا كَمُعَلِّمَةٍ في فَصلٍ من المراهِقينَ، ورقيقةٌ كَأُمٍ تُرضِعُ صِغَارَها وتُهَدهِدُهم وتغني لهم أُغْنِيَةَ الأمَلْ.