الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

جغرافية الشعراء..!

الثلاثاء 15/فبراير/2022 - 08:13 ص

كلما قرأت في سير وتراجم رجال التصوف الكبار، وما أبدعوه من شعر ونثر لوصف أشواقهم وأحوالهم ورحلاتهم وتجاربهم الروحية، وعلاقتهم بالله والعالم والإنسان، تأكد لي صدق التجربة الصوفية، رغم اختلاف أشكالها وتجلياتها عبر العصور، وعرفت أن جوهرها هو الحب الذي يُفضي إلى المعرفة، والمعرفة التي تُفضي إلى أن يصبح الصوفي بعد رحلة بحث طويلة وحيدًا مع الواحد المحبوب.

 

وتأكد لي أيضًا أن اللغة الصوفية التي يغلب عليها الشعرية والمجاز هي وصف لحالات وجدانية نادرة، تدخل في باب المضنون به على غير أهله، وهي لغة لا يفهمها على حقيقتها إلا من ذاقها وعرفها؛ فما أبعد الفارق بين الكلام وبين التجربة والمعاناة، بين الحديث عن العشق والشوق وبين مكابدتهما حقًا.

 

ومن أبرز جماليات التجربة واللغة الصوفية استخدام بعضهم لمفردات الغزل العربي التقليدي للتعبير عن التجارب الروحية، واعتبار الحياة رحلة سفر مستمرة بحثًا عن معشوق الفؤاد، ومرغوب القلوب، ومن بقربه يتحقق كمال الوجود.

 

وهنا تأتي أهمية هذا الكتاب الصغير في حجمه، العظيم المتعة والمنفعة في موضوعه، وهو كتاب "جغرافية الشعراء" للمستشرقة الألمانية " أنّا ماري شيمل" الذي يضم نص محاضرة ألقتها المستشرقة الشهيرة في مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن عام 2000.

 

الكتاب يتناول موضوع الترحال والسفر عند الشعراء الصوفيين، بحثًا عن مدينة الروح وموطن القلب ومستقر الحبيب، مصداقًا لقول جلال الدين الرومي: "أيها الفتى، أنت قد رأيت في غربتك مدنًا كثيرات، فخبرني أية مدينة من هذه أطيب؟ فأجاب: تلك المدينة التي فيها من اختطف قلبي".

 

وقد حاولت "أنّا ماري شيمل" في محاضرتها إبراز  النهج الذي سلكه شعراء الصوفية المسلمين، الذين استخدموا مجاز المدن والأنهار والمعالم الطبيعية للدلالة على المحبوب، وكشف الإيقاع الداخلي المشترك بينهما.

 

والجغرافية التي يتحدث عنها الكتاب هي جغرافية روحية، صنعها خيال مفكري وشعراء الصوفية الذين قاموا برحلات عبر صحارٍ لم يروا منها شيئًا ألبتة، على ظهر جمل لم يكن ملكًا لهم في يوم من الأيام.

 

وهذه الجغرافية الروحية هي التي أشار إليها الصوفي الكبير محي الدين بن عربي، عندما تحدث عن فن معرفة تأثير الأماكن الشريفة على الأرواح اللطيفة.

 

وهي أيضًا الجغرافية التي تفسر لنا "سر المدينة التي نبحث عنها في أسفارنا" التي تحدث عنها جلال الدين الرومي؛ وهي المدينة التي تجتذبنا على نحو خفي، فنرحل بحثًا عنها، ولو على غير إرادتنا.

 

ولعل أجمل ما ورد في هذا الكتاب عن تلك الجغرافية الروحية ما ذكرته "أنّا ماري شيمل" على لسان نزيل الإسكندرية الصوفي والفقيه المالكي أبي بكر الطرطوشي (451هـ - 520هـ) صاحب كتاب "سراج الملوك في سلوك الملوك"، الذي اعتبر السفر بحثا مستمرًا عن المعشوق، أو عن أثر ولو بعيد من آثار هذا المعشوق، فقال:-

 

"أوقفتُ المسافرين من كل بادٍ سائلًا
هل أحسّ أيّ منهم يا معشوقتي بعطرك
سألتُ كل ريحٍ ونسمة
هل منكم من يعرف أين حبيبتي؟".

وكذلك قول جلال الدين الرومي في ديوان غزليات شمس تبريزي:

"وما دمشقُ؟!
إنها جنّة مملوءة بالملائكة والحور
وقد حارت العقول في تلك الوجوه
لا، أنا عاشق ومندهش ومجنون بدمشق
روحي فداء لدمشق وقلبي أسير هوى دمشق".

 

في النهاية هذا كتاب صغير ممتع جدير بالقراءة والتأمل في موضوعه، وفي حياة وسيرة مؤلفته الباحثة والمستشرقة الألمانية الفريدة في تكوينها وموضوعيتها" أنّا ماري شيمل"، التي اتسمت كتاباتها بالرصانة العلمية والجمال والجلال في الوقت ذاته، والتي عشقت مجالها بحثها والصوفية المسلمين فأعطوها مفاتيح أسرارهم ولغتهم، ورأت فيهم وكتبت عنهم  ما لم يراه ولا يكتب فيه من قبل أحد  مثلها.

تابع مواقعنا