نقد "فلسفة كأن" المصرية
بعد أكثر من خمسة عقود من التردي العام، التراجع، وفقدان الدور والمكانة، وتدهور المنظومة القيمية والمعرفية في مصر، أصبحت الفلسفة المُسيطرة على وعي الشعب المصري، الموجهة لأفعاله وسلوكه في الحياة الخاصة والعامة هي "فلسفة كأن".
و "فلسفة كأن" المصرية تعني أنه لا شيء حقيقي أو صادق حولنا، وأن واقعنا وحياتنا ظلال وأوهام وتخيلات وتمثيليات؛ فكأننا نحيا، وكأننا نَتعلم، وكأننا نُعلم، وكأننا نعمل، وكأننا نًنتج ونطور ونتقدم ونتغير للأفضل، وكأننا نقوم بكل شيء على أكمل وجه، رغم أننا في الحقيقة لا نفعل شيئًا، ونخدعه أنفسنا وغيرنا، ونسير في المكان حينًا، ونرجع للخلف في أغلب الأحيان.
وفلسفة كأن المصرية ليست مثل "الفلسفة المثالية الألمانية" التي ترى أن المثال وما ينبغي أن يكون، هو كل شيء، وتنطلق من افتراض وجود المثال، لكي تجعله بالفكر والعمل حقيقة وحياة تُعاش، يجني الناس ثمارها تغييرًا وإصلاحًا وتقدمًا ورفاهية؛ لكنها فلسفة واقعية لها جذور تاريخية أصيلة في مصر، وتُؤسس على فن خداع الذات والآخرين، وعلى اليأس من أن يتغير حالنا وواقعنا إلى الأفضل.
ولهذا فهذه الفلسفة "تُؤسطر" ما هو كائن، والواقع المتردي حولنا، أي تُضفي عليه صفات أسطورية تاريخية تجعله راسخًا وأبديًا غير قابلة للتغيير، وتجعل شعار التعامل معه هو شعار المصريين المتوراث: مفيش فائدة.
وهذا يعني أن "فلسفة كأن" المصرية، هي في وجهها الآخر، فلسفة في اللامبالاة وعدم الاكتراث وتكبير الدماغ، والبحث عن المصحة الشخصية. وهي حيلة مصرية أصيلة لخداع الذات والآخرين، وتوظيف "فن الفهلوة" واللعب بالبيضة والحجر لتحقيق أكبر قدر من المنافع، مع بذل أقل مجهود ممكن.
لكنها وإن قدمت لصاحبها طريقًا للخلاص الشخصي، فإنها تؤدي في النهاية إلى انقسام وتشرزم المجتمع، وإلى تغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، وإلى تحول المجتمع إلى مجموعة من الجزر المنعزلة التي يسعى سكانها فقط لحماية مصالحهم ومكتسباتهم، تحت شعار: أنا ومن بعدي الطوفان.
وهذا يعني أن "فلسفة كأن" المصرية، هي سر تدهور الأخلاق المهنية عند المصريين في كل مجال بصفة خاصة، وسر تدهور أوضاع مصر والمصريين في كل ميدان بصفة عامة.
ولهذا ينبغي على المخططين اليوم في مصر لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وحماية ثوابتها الوطنية، وأمنها القومي، وتصويب أخطاء أنظمة الحكم السابقة، واستعادة دور ومكانة مصر التاريخية في المنطقة والعالم، أن يسعوا إلى محو كل أشكال حضور "فلسفة كأن" من عقول وحياة المصريين، وإلى أحياء الأمل في قلوب المصريين بأن هناك فائدة من العمل والإخلاص فيه، وفعل الواجب كما ينبغي أن يكون.
كما ينبغي عليهم عقاب وإبعاد كل مسؤول يُجيد التمثيل أكثر من العمل، ويؤمن بـ "فلسفة كأن" ويمارسها في نطاق عمله ومسؤوليته لخدمة مصالحة الشخصية، ولا يؤدي واجبه كما ينبغي أن يكون لخدمة الوطن والصالح العام.