الأربعاء 27 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

عن ألسنة المصريين

الجمعة 22/أبريل/2022 - 10:33 م

في مصر وحدها، على ما رأيت، يتحدث الناس أربع لغات، ثلاثًا غير العربية، أقول لغات وليست لهجات.

في سيوة يتحدث أهلها الأمازيغية، ويجيدون الحديث بالمصرية مع الزوار، لكن فيما بينهم فلا حديث غالبًا سوى الأمازيغية.

أما في حلايب فيتحدثون لغة "البجا" أو "البجاوية"، وفي الحديث الدارج يطلقون عليها اسمًا دارجًا وهو "الرطّانة"، ويزعمون أن لها أصلا مستمدا من اللغة الفرعونية القديمة "الهيروغليفية".

وأما أهل النوبة فيتكلمون النوبية، وفي النوبية عرقان، الڤاجيكا والكنوز، ولكل منهما لهجة، بينما يقول غير واحد أن لغة الفاچيكا تختلف كليا عن لغة الكنوز تماما، وأنهما لغتان وليستا لهجتين لذات الجذور اللغوية واللسان المشترك.

ومن المدهش أن البجا، لغة أهل حلايب وشلاتين، تختلف تمامًا عن النوبية، رغم التقارب الجغرافي -نسبيًا- بين المنطقتين، النوبة وحلايب. وأهل اللغتين مستمسكون بهذا الاختلاف والتمييز فيما بينهما، تمسكًا يرقى لمرتبة القلق.

والأمازيغية، لغة أهل سيوة، فهي لغة الأمازيغ الذين يسكنون المغرب العربي، وهم جنس البربر، وتلك تسمية أخبرني غير واحد من أهل المغرب أنها غير مفضلة لديهم، وأصلهم من صحراء المغرب، وأذكر أن لويس عوض قد ذكر في كتابه تاريخ الفكر المصري الحديث أن البربر هم الجنس الذين كان منهم الهكسوس الذين غزوا مصر القديمة، وأن من صلبهم قد انحدرت قبيلة هوارة التي استوطن صعيد مصر بعض من فروعها.

لا زلت أذكر دليل الصحراء في سيوة، حين دفعت صديقي ليسأله إن كان يعتبر نفسه عربيا أم لا؟ وقد استفزته المعلومة التي قلتها له إنه ليس عربيا، وكيف ذلك؟ وهو مصري بالروح واللسان، يسير معنا منذ يومين في الصحراء، حيث تخلو الصحبة من كل تكلف، يحكي ويضحك و"ينكت" بروح مصرية خالصة أعمق من اللسان.

غلب صاحبي فضوله فسأله، هل أنت عربي؟، فأجابه بسرعة بأنه ليس عربيا "بالطبع"، وحين شعر الرجل بأنه قد بالغ في النفي فبدى كمن يدفع عن نفسه الإهانة، فقد بادر معتذرًا انا بأننا "كلنا مصريون" في النهاية. وبينما كان صاحبي لم يزل مشدوهًا من الإجابة، فأردفت إليه بأن الرجل لم يكذبك في الحالين، فهو مصري صميم وغير عربي بتاتًا.
.
نعود تارة أخرى إلى حلايب، إذ أخبرنا الصديق الذي أكرم ضيافتنا بها، أنه ركب أتوبيسًا، ضم رجالًا من النوبة وآخرين من شلاتين وحلايب، وشخصا واحدا من الصعيد، وحينما تحركت الحافلة طفقت كل مجموعة تتحدث بلسانها، بينما ظل ابن عمنا الصعيدي لا يجد من يسامره، ولا يفهم ما يدور حوله، حتى أصابه الصداع، فاشتكى للقوم كأنهم واحد، هكذا اخبرته نفسه، أليس كل ما يجهله الإنسان يضعه في صندوق واحد؟ ثم يضع له عنوانا يوافق هواه حين يتيسر ذلك، نهض الصعيدي الوحيد فصرخ في القوم: أرجوكم توقفوا عن الثرثرة، منذ تحرك الأتوبيس وانا لا اسمع إلا بلا بلا بلا!
أجابه رجل من حلايب: "ولكن أعلم يا أخانا أن البلا بلا بلا بتاعتنا غير ال بلا بلا بلا بتاعتهم!

إن هذا البلد لن يعدم غنىً بأهله، ذكرت ذلك حين قرأت كتاب الصديق العزيز القاضي وليد أمين "حكايات على الحدود" وهو كتاب ينتمي إلى أدب الرحلة، ينتهي فيما انتهى إليه من شواهد، أن مصر بلد غني يضم من الثقافات والأعراق، بل واللغات فوق ما يتصور أهله، أهله الذين يشكلون الأغلبية، التي تحيا في البنادر والقرى والعواصم، بجوار وادي النيل أو بحذو البحرين.

وقد لاح لي وجده آخر لم يغفله الكتاب الذي يثير من المعارف والفضول فوق ما يبذل من إمتاع القارئ، ألا وهو أن هذا الغنى والتنوع، إن انضم إليه اختلاف اللهجات، ثم تنوع البشر في طباعهم وعاداتهم وأهوائهم، ثم زاد عليه تبدل الزمان، بما يفرضه على أهله من تبدل الأحوال، وتغير الطباع، واختلاف الأعراف والقيم. إن كل ذلك هو تنوع يعصى على عقل الحليم الإلمام به، ويتجاوز حدود تصوره، اختلافا يوصم بالسذاجة كل من يرفض شيئًا لم يعتده، بدعوى "أن ليس هذا ما نعرفه" أو "ليس هذا ما اعتدنا عليه". نعم، لكل جديد دهشة، لكن الجديد ينفذ إلى الحياة دون أن يعوقه رفض العقول أو عدم ارتياح القلوب، وكذلك اختلافات البشر، تَضحى مدهشة لكل ذي عينين ومستفزة لملكات البشر ومواهبهم التي تباينت بإبداع الخالق.

ولا يكف هذا الثراء عن الإثارة، فهو شاهد على أن الحياة تحمل صورًا كثيرة لا يعرفها أو لم يعتدها الإنسان، وبخاصة إذا ضاق أفقه، وتقيد بالمعتاد، وظن أن الحياة جامدة على ما تصوره جامدة تتقيد "بالنيش" شرطًا عند الزواج، أو باستهداف كليات ثلاث لا رابع لها، سميت كليات القمة، حين يلتحق بالثانوية، وتقيد قبلها بإجابة نموذجية حين يختبر، إجابة نموذجية يظل يبحث عنها ويطمئن لها ويرددها.

هكذا جعل الله الناس مختلفين ولذلك خلقهم، وهكذا جعل الله على الأرض ما يدهش كل حي. إن هو طرق بابه ولم يظل مقلدا لتحفظات أسلافه حتى ينقضي الأجل دون أن يحيى وهو يظن أنه قد فعل.

تابع مواقعنا