اجتهادات التوثيق والنقل والرواية بعد 11 هجريًّا 2-2
كنت قد أشرت في المقال السابق إلى بعض النقاط في الرواية ونشأة علم الرجال وطُرق في حفْظ الأسانيد، والاهتمام بها، والعناية بضبطها، التعريف، وبالتأكيد الأمر جد صعب وشاق، حيث يلزم من يبحر ويسبَح في ذلك الفلك استقراء النقول، سواء بالإسناد أو غيره من صور التوثيق، وكذا إرساء معرفة رصينة بالتابعين والصحابة والغث والثمين في ذلك المنوال.
كما يلزمنا أيضا التنبيه إلى اهتمام أئمَّة العقيدة بضبْط مروياتهم بالأسانيد المتصلة إلى من ألّف الكتب، كما هو حال أئمة الحديث.
الردُّ -العقلاني- والعقلاني فقط، على مَن يُشكِّك في نسبة بعض الكتب المستفيضة إلى مؤلِّفيها بحُجج غير صحيحة، وإغفالهم ثبوت إسناد الكتاب إلى مؤلفه، وتتابُع العلماء على هذا الإثبات، والصعوبة التي يواجهها الباحث في ذلك الشأن أن هناك ندرة في الدراسات المستقلة في ذلك المجال، جمعتْ جملةً من المصنفات -حسب علمي - اهتمَّتْ بتتبُّع أسانيد الكتب العقَدية والتعريف بها.
كما اهتمَّ علماء الإسلام بالإسناد قديمًا، وأَوْلَوْه أهمية كبيرة في توثيق مروياتهم، وجعلوه دِينًا.
ومما قاله الإمام محمد بن سيرين رحمه الله في هذا الشأن: اتقوا الله يا معشر الشباب، انظروا ممَّن تأخذون هذه الأحاديث؛ فإنها مِن دينكم". وقال أيضًا: "إنَّ هذا العِلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم" وقال ابن المبارَك - رحمه الله -: "الإسنادُ من الدِّين، ولولا الإسنادُ لقال مَن شاء ما شاء".
علم الرواية وتَفرُّد المسلمون به
شاع علم النقل والتوثيق منذ القدم ولكن لم يكن له أسس أو ضوابط، ووضعت وهي خاصية شرَّف الله بها أمَّةَ محمد - صلى الله عليه وسلم - دون غيرها منَ الأمم، وميزة امتاز بها أهل السنة والجماعة وضعوا أسسها ونظموها.
قال أبو نصر بن سلام: "ليس شيءٌ أثقل على أهْل الإلحاد، ولا أبغض إليهم من سماع الحديث وروايته وإسناده".
وذلك أنَّ أهل الأهواء إن استدلُّوا على بدعهم، إما بما ليس له إسناد، وإن أُسند فهو مما لم يصحَّ، وأما ما صحَّ فليس لهم فيه حُجة في الدلالة على مُعتقداتهم وباطلهم، كما بين هذا في تفصيل شرحه.
وعلم الرجال والنظر في الأحاديث باق، ولم يمض، بل لا يزال، فأهل الحديث عليهم أن يعتنوا بهذا ويراجعوا الأحاديث ويميزوا بين صحيحها وسقيمها ويرشدوا الناس إلى ذلك، ولا يقفوا عند ذكر فلان أو فلان، بل يتابع، مثل المنتقى، مثل بلوغ المرام، مثل السنن الأربعة، مثل مسند أحمد، يراجع الأسانيد ويعتني بها، ويعرف صحيحها من سقيمها حتى يستفيد من ذلك ويفيد غيره، هكذا شأن طالب العلم الذي قد وفقه الله لمعرفة الأحاديث ومعرفة أسانيدها ومعرفة أحوال الرجال واشتغل بهذا الشيء، يكون فيه فائدة عظيمة له ولغيره.
النقد في باب علم الرواية
وربما أول ما ينحو المشككون والمرجفون تجاهه هو سطوة العقلية الفقهية الذكورية المناهضة للمرأة في علم أصول الحديث، وهي التي سمت أهم علومه، والمفترض أنه أدق علوم السنة "علم الجرح والتعديل" أي نقد الرواة وتعديل شهاداتهم وبيان صحة أسانيدهم، بـ "علم الرجال" أو "علم رجال الأثر". وكذلك وجود عقليات سلفية متشددة من الفقهاء رفضت قبول تعديل النساء، رغم أنه لم يثبت لدى العلماء أن امرأة كذبت في حديث أو اختلقته، فهن نوعان لا ثالث لهما إما ثقاة أو مجهولات، قال الإمام الحافظ الذهبي (ت1348 م): "لم يُؤثر عن امرأة أنها كذبت في حديث"، وقال الفقيه بدر الدين الشوكاني(1834م): "لم ينقل عن أحد من العلماء بأنه رد خبر امرأة لكونها امرأة، فكم من سنة قد تلقتها الأمة بالقبول من امرأة واحدة من الصحابة، وهذا لا ينكره من له أدنى نصيب من علم السنة".
وهذا الكلام مردود عليه في غير باب وبأدلة عقلية منطقية يراها من أراد الحق، وغلب المنطق على الهوى، ولكن الإشكالية أن طرحه يأتي من غير مختص، وبالتالي لا يعتد أو يحتج بما تسوقه بأدلة، كما يغلب مبدأ التلبيس على العوام عند معظم الناقدين، لذا سأفرد على صفحتي الشخصية بيانا عقليا أستعين فيه بالله في الرد على تلك الشبه بعيدا عن مَعينَي القرآن والسنة.