أنا ابن الحكماء القدماء 2
بلغت الدولة المصرية القديمة قمة ازدهارها ومجدها مع فراعنة الأسرة الرابعة بُناة الأهرام، الذين ملكوا سلطة مركزية كبيرة، وثروات ضخمة مكنتهم من تسخير مُقدرات الدولة، وجهود رعاياهم في بناء الأهرامات بهذا الارتفاع الشاهق، وبكل مضامينها ودلالاتها المادية والمعنوية، الدنيوية والدينية.
لكن هذا الإنجاز العظيم، ربما تم دون مراعاة آلام الرعايا ومعاناتهم في العمل المُضني الذي استغرق سنوات طويلة، ودون تثبيت دعائم بناء الإنسان والسلم الاجتماعي، ودون أن ينتبه الحكام لمظالم ومفاسد كبار الموظفين الذين أداروا الدولة المصرية، وحققوا من وراء ذلك ثروات ضخمة، أتاحت لهم أن يصبحوا أصحاب إقطاعيات زراعية كبيرة.
وبحلول عام 2500 قبل الميلاد، تضخمت تلك الإقطاعيات، وزاد نفوذ أصحابها، وحققوا لأنفسهم استقلالًا اقتصاديًا وسياسيًا كبيرًا، استطاعوا بمقتضاه إدارة شئون تلك الاقطاعيات بعيدًا عن سلطة ومراقبة الحكومة المركزية.
وقد أدى ذلك إلى جعل الدولة المصرية القديمة مُقسمة إلى عدة اقطاعيات مفككة لا رابط بينها، وجعلها بالمصطلحات السياسية المعاصرة دولة رخوة وفاشلة؛ مما ترتب عليه في النهاية انهيار الدولة على نحو مُروع، وتفسخ المجتمع وتمزيق وحدة الأرض المصرية، وتعريض وجود الدولة المصرية للخطر.
يذكر الأستاذ جيمس هنري برستيد في كتابه الشهير فجر الضمير، أن هذا الانهيار للدولة المصرية القديمة كان له تأثير عظيم على شخصية ونفسية المصريين، الذين شاهدوا كارثة الانهيار وجنوا ثماره المُرة، وصدمتهم وصعقتهم نتائجه.
وقد ترتب على هذه الصدمة، ميل بعض مثقفيهم وحكمائهم إلى التأمل في معنى الحياة وجدواها؛ ولهذا أقلعوا عن كل مظاهر الأبهة الخارجية الكاذبة، وتحولوا إلى التأمل العميق في قيم الباطن، والبحث عن أسباب السقوط السياسي والاجتماعي والأخلاق.
وقد اكتشفوا أن مجد الأجداد الذي كان محوره الأبهة وعظمة وضخامة البنيان، لم يكفل للأجداد المجد الدنيوي والديني والخلود الذي سعوا إليه، بعد أن استبيحت ونُهبت قبورهم ومعابدهم، ولم يحافظ أيضًا على تماسك وأمن الدولة المصرية، ووحدة المجتمع.
ولهذا مال بعضهم إلى التشاؤم، وكراهية الحياة، وتمني الموت، بسبب ما شاهدوه وعاشوه حولهم من مظاهر للسقوط والانحطاط.
وتُجسد لنا البردية الشهيرة المحفوظة الآن في متحف برلين، التي تحمل عنوان: محاورة بين إنسان يأس سئم الحياة وبين روحه، الحالة النفسية والعقلية لإنسان مصري حكيم عاش في ذلك الزمان، ونظر حوله فلم يجد إلا الفساد والخيانة والظلم؛ فتألم كثيرًا وبلغ به اليأس مداه، وفقد الإيمان بجدوى الكلمة وحلم الإصلاح، مما دعاه لتمني الموت خلاصًا من كل شيء، فكتب يقول:
لمن أتكلم اليوم؟
الإخوة سوء، وأصدقاء اليوم غير جديرين بالحب.
لمن أتكلم اليوم؟
القلوب تميل إلى اللصوصية، فكل إنسان يغتصب متاع جاره.
لمن أتكلم اليوم؟
فالرجل المُهذب يهلك، والصفيق الوجه يذهب في كل مكان.
لمن أتكلم اليوم؟
لا يوجد رجل عادل، وقد تُركت الأرض لأولئك الذين يرتكبون المظالم.
وعلى العكس من هذا الحكيم المتشائم المجهول، عاش في ذلك الزمان ناقد ومفكر اجتماعي رائد ونادر المثال في العصور القديمة، هو الحكيم إيبور الذي حاول أن يهزم يأسه، ونقل لنا في نص موجود ببردية محفوظة الآن بمتحف ليدن بهولندا، بعض مظاهر الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتردية حوله، وبحث في أسبابها وكيفية الخروج منها.
بل وجدناه كمفكر أصيل يمارس النقد الذاتي، فيُحمل نفسه بعض مسؤولية التردي والانهيار الذي صارت إليه أوضاع البلاد والمجتمع، لأنه لم يقم بدوره، ولم يُجاهر بمخاوفه ورأيه وبكلمة وشهادة الحق في وقتها؛ ولهذا كتب يقول:
ليتني رفعت صوتي في ذلك الوقت، حتى أُنقذ نفسي من الألم الذي أنا فيه الآن، فالويل لي لأن البؤس عم في هذا الزمان.
وجدير بالذكر هنا أن الحكيم إيبور لم يتوقف عند ممارسة النقد الذاتي والمجتمعي، بل اتخذ أيضًا موقفًا إيجابيًا بناءً؛ عندما وضع تصوره للخطوات التي تُمهد للإصلاح وتجديد المجتمع والدولة، وأهمها وجود حاكم عادل ذي بأس، تكون وظيفته أن يطفئ لهيب الحريق الاجتماعي، ويُقال عنه إنه راعى كل الناس.
ولكنه نظر حوله فلم يجد هذا الحاكم القوي العادل، فتساءل متألمًا: أين هو اليوم؟ هل هو بطريق المصادفة نائم؟ اُنظر إن بأسه لا يرى، ومع ذلك ظل ومعه كل المصريين على مدار تاريخهم، يحلمون بوجوده، ويبحثون عنه.
وأظن هنا أن جدنا الحكيم إيبور، قد وضع بهذا النص أهم مقومات صلاح ونجاح الحاكم في كل زمان ومكان، وضمان استقرار ووحدة وأمن الدولة الاجتماعي والسياسي، وهي الجدارة، والقوة، والعدل، والمساوة بين الناس، والإخلاص في رعاية مصالح البلاد والعباد.
ولهذا استحق الحكيم إيبور أن يكون واحدًا من أكبر المصلحين السياسيين والاجتماعيين في العصور القديمة، الجديرين بتأمل وتدبر أرائهم؛ لنتعلم منهم، ونعلم عظمة التاريخ الأخلاقي والثقافي والحضاري الذي نحمله على ظهورنا، وأننا أبناء هؤلاء الحكماء القدماء.