الصحوة الإسلامية الكاذبة في مصر
أظن أن أكبر الجرائم التي ارتُكبت في حق الثقافة والهوية والدولة المصرية، التي نجني ثمارها المُرة المتمثلة في تدهورنا فكريًّا واجتماعيَّا، وتراجع مكانة ودور مصر الإقليمي والإفريقي، وتهديد أمن واستقرار الوطن؛ هي السماح باختراق جماعات الإسلام السياسي والتيارات الدينية السلفية للمجتمع المصري.
وهو الاختراق المُنظم الذي بدأ منذ سبعينات القرن الماضي، بسوء تقدير وتدبير من نظام الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وبعض رجاله في الحكم، الذين دعموا ظهور تلك الجماعات بدعم خارجي وإقليمي، بهدف ضرب التيارات السياسية الناصرية واليسارية، رغم تحذير الأجهزة الأمنية من أن نتائج تلك السياسة لا يمكن التحكم فيها، وستكون لها مخاطر كبيرة.
الغريب أنَّ تلك الجماعات أطلقت على هذا الاختراق في أدبياتها اسم "الصحوة الإسلامية"؛ فكأنَّ المسلمين في مصر كانوا نيامًا ومن أهل الكهف، حتى جاء الإسلاميون وأحدثوا تلك الصحوة التي تجلت فقط في إفراط قطاع عريض من المصريين في الاهتمام بالبعد الشكلي الخارجي للدين، مع عدم الالتفات إلى جوهره الإنساني، وبعده الاجتماعي ورسالته وغايته الحضارية.
المفارقة المحزنة، أنَّ كل ما دعت إليه تيارات وحركات "الصحوة الإسلامية" كان يناقض مفهوم الصحوة أو اليقظة، ويؤدي إلى غفلة حضارية وتكريس للتخلف، بمحاولة إيقاف عجلة الزمان ودعوة المسلمين للهروب من عصرهم، والعودة للوراء ليعيشوا عصر السلف، ويعيدوا إنتاج فكر وخيارات وسلوك السلف.
وقد تعرض الراحل الدكتور فؤاد زكريا في كتابه القيم "الصحوة الإسلامية في ميزان العقل"، الصادر عام 1989، لتلك المفارقة اللغوية والفكرية الكامنة في استخدام مصطلح "الصحوة الإسلامية" لوصف ظاهرة انتشار الجماعات الدينية في مصر والبلاد العربية منذ منتصف سبعينات القرن الماضي،، دون أن يصاحب ذلك ارتفاع في مستوى تفكير ووعي هذه الجماعات، ودون أن يحدث ارتقاء في طريقة فهمها للإسلام وتطبيقها له في سياق عالم معاصر سريع التغيير.
وتعجب الراحل الدكتور فؤاد زكريا من أن ترفع تلك الحركات الإسلامية المعاصرة لواء ومصطلح الصحوة، مع أن دعوتها وأفكارها في حقيقتها رجعية شديدة التخلف، وتقوم على إحياء أفكار وسلوكيات تعود إلى ما يزيد عن ألف سنة ماضية.
كما تعجب أيضًا من اهتمام تلك الحركات بالجوانب الشكلية والشعائرية للدين، والتوقف عند بعض الأوامر والنواهي التي لا تمس الحياة العامة في المجتمع، وقال في نقد ذلك الأمر:
"إِنَّ الشعائر الدينية التي تقصد لذاتها، بوصفها أركان الدين، لابد أن تترجم إلى أفعال تنعكس إيجابيًا على حياة الناس، وإلا فقدت فعاليتها ولم تعد مقبولة حتى من وجهة نظر الدين نفسه والحس الجمعي للمجتمع.
فكم من أحاديث نبوية تؤكد أهمية المعاملة بوصفها المظهر الأساسي للدين، وتندد بأولئك الذين يقومون ويقعدون دون أن ينفعوا الناس بشيء.
وكم من أمثلة شعبية مصرية، حافلة بالسخرية من أولئك الذين يُؤدون فروض الدين، ويُظهرون التدين، ولكنهم لا يُحسنون معاملة الناس، ويتسم سلوكهم بازدواجية مقيتة، حيث يقولون دائمًا ويأمرون الناس بما لا يفعلون.
وقد انتهى الدكتور فؤاد زكريا في هذا التحليل إلى أنَّ "الصحوة الإسلامية" التي يروجون لها، جاءت نتيجة الإحباط وخيبة الأمل في ظل فقدان العدالة الاجتماعية، وضياع الرشد الاقتصادي، وضلال التوجه السياسي، وانهيار القيم الأخلاقية والفكرية.
كما أنها جاءت كمظهر من مظاهر السخط، بوصفها ثورة سلبية على الأوضاع القائمة المتردية، وعجز المسلمين المعاصرين عن مواجهة الواقع، والاهتداء إلى طريق جديد للإصلاح والنهضة والتقدم ودخول عالم الحداثة.
وعندم تعمق لديهم هذا الحساس بالهزيمة والعجز، ظنوا أنَّ سبيلهم الوحيد للخروج من تلك الحالة، ومن التحديات الفكرية والعلمية والحضارية التي يفرضها العصر الذي يعيشون فيه، هو الارتماء في أحضان القديم المُجرب، والتمسك بمظاهر التدين الشكلي وتراث السلف.
وهذا يعني أن الانتشار الكبير لتيارات الإسلام السياسي والجماعات الدينية الأصولية في المجتمع المصري في آخر خمسة عقود، هو في حقيقته إفراز مرضي لمجتمع مأزوم، ونُكُوص عقلي وفكري، وغفلة حضارية، وليس صحوة إسلامية.
ويكفي لإثبات ذلك معرفتنا أن تلك التيارات الدينية قد حوّلت الدين من طاقة بناء إلى ملجأ عزاء، وفتحت الباب لبعض الشباب للكفر بعصرهم وأوطانهم ومجتمعاتهم، والتحول فيما بعد إلى عناصر مدمرة لاستقرار وأمن الوطن، نتيجة ضعف قيم الولاء والانتماء لديهم، ومعاداتهم للدولة المصرية وثقافتها ومؤسساتها الوطنية.
وفصل المقال، إِنَّ الدولة المصرية التي تأسست على شرعية ثورة يوليو 1952، قد توقفت منذ منتصف سبعينات القرن الماضي عن استكمال مشروع حداثتها، وتطوير بنيتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتحرر من قيود التقاليد والموروث القديم، وجعل التعليم والفكر والفن والثقافة حجر الزاوية في بناء شخصية المصريين، بهدف تنمية قدرتهم على التحرر من قيود الماضي، ومواجهة تحديات الحاضر، وصنع المستقبل.
وقد اضعفت بذلك الخيار المأساوي الجهاز المناعي المعرفي والحضاري للإنسان المصري، ويسرت الطريق لاختراق المجتمع بواسطة جياع العقول من المتأسلمين والأصوليين، الذين أصبحوا مع الوقت خطرًا أمنيًا، وقوة ضغط اجتماعي وسياسي على الدولة ومؤسساتها.
ولهذا فقد آن الأوان لمواجهة كل ذلك بأن تجعل الدولة المصرية من استكمال مشروع حداثتها المُعطل أولوية قصوى، في إطار مشروع تنمية شامل للارتقاء بالإنسان والمجتمع والدولة، وتنمية قدرتهم على عيش عصرهم وفهم متغيراته، ومواجهة تحدياته وتهديداته ومخاطره، بعيدًا عن أوهام المتأسلمين، وجمود عقل كل مَن يعيشون خارج التاريخ والعصر.