دبوس السوشيال ميديا
أحد أهم سمات منصات التواصل الاجتماعي في مصر، أنها طورت حكايات السمر وكلام الليل ( المدهون بزبدة) في جلسات السمر وليالي الصيف المقمرة وصوت إذاعة أم كلثوم وطبق الجبنة بالبطيخ، ونقلتها إلى شاشة الكمبيوتر وشاشة الموبايل، ولكن ربما بإيقاع أسرع وحكايات أحدث وتناسب إيقاع العصر.
قديما كانت جلسات ليل الصيف الطويل تبدأ برواية خيالية بسيطة، ويطورها الجلوس تباعا إلى أن تصل إلى أكثرهم تذكرا وقوة للذاكرة فيتداولها في الأيام التالية مع أصدقاء جدد كاملة مطورة بكافة حبكاتها وعلاج مشكلات عدم اليقين من الجلوس مع الآخرين أحيانا، ويبدأ الراوي الماهر في سردها في كافة جلساته التالية، ومن عذوبة وسلاسة أسلوبه، كان الرفاق يستدعونه لجلساتهم ويتهافتون عليه إلى أن امتهن بعض الرواة تلك المهنة ليضمن منها عشاء ومشروبا مجانيا طوال سهرات الصيف، وغالبا ما تنتهي السهرة بنسيان كل شئ من الأصدقاء بمجرد أمنيات النوم السعيد والأحلام السعيدة والغطاء الجيد مصحوبة بضحكات وابتسامات نهاية ليلة وأمسية سعيدة.
وخلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات وحتى بداية العشر سنوات الأولى من الألفية اندثرت تلك العادة العربية الأصيلة ليحل محلها التليفزيون والفضائيات بحكايته المصورة الأكثر جذبا وأيضا تواكبا مع تطور الكسل البشري الذي بدأ يعتاد ( الأنتخة)، وربما بدأ يعتاد حكايات التليفزيون والفضائيات قليلا حتى صار الإيقاع أسرع قليلا مع بدايات انتشار الانترنت، وانتهاءا بالبقاء على مواقع التواصل الاجتماعي بمعدل 3 ساعات ونصف والبقاء على الانترنت بمعدل يقترب من 8 ساعات يوميا الآن.
ولكن لم يكن أحد ليتوقع تطورحكايات السمر العريقة المرحة، التي كان أقصى طموح روادها هي التسلية والفرفشة لتتخذ نمطا أسوأ تأثيرا على المجتمع مما قد يعتقده البعض بأنه مجرد ضياع الوقت على منصات التواصل الاجتماعي، تحول الراوي القديم إلى شيطان رجيم يحدد أهدافه بدقة بالغة، ويعرف خصائص جمهوره الجديد لحد يصل إلي تعمقه في دراسته وسماته ومستوى ثقافته، ويجيد استخدام الآليات الحديثة لانتشار روايته ( كتريند)،ويستغل حالة السيولة المعلوماتية وطرق استخدامها في التأثير وتغيير القناعات الشخصية والجمعية.
وصل استخفاف الراوي الشيطان بمجتمعنا وإطلاقه لرواية ( الدبوس المخدر ) لترويع المجتمع المصري، وليرسل رسالة عدم الأمان للمصريين بالداخل، وبالقطع رسالته للخارج هي أن انظروا لهذا المجتمع الذي تحركه خرافة، وتجربة تلو تجربة وتضليل وراء تضليل، كي يستطيع أيضا دراسة وتحليل طرق استجابة هذا المجتمع لطبيعة أكاذيب وخرافات ويدس بينها أخبارًا ورسائل يريد بها تدمير المجتمع وتأليبه وإشاعة أجواء من الإحباط واليأس المجتمعي.
الدبوس الساحر، الذي فاق علوم الطب والتخدير والفيزياء وكل العلوم الحديثة مجتمعة، يستطيع تغييبك عن الوعي في لمح البصر وخلال ثانية واحدة يتم تخديرك ونقلك لسرقة ممتلكاتك أو سرقتك شخصيا لاستخدامك كقطع غيار بشرية، الرواية ليست بأعجب من ردود الأفعال عبر تريندات منصات التواصل الاجتماعي والتي تكشف عن مدى ضحالة واختلال الثقافة المجتمعية الحالية، وقبولها كل ما يناقض العلم والعقل بشكل عجيب، بل وتداولها كأنها حقائق لأنها منشورة (على الفيس، كما يفضل العامة نطقها).
والخلاصة أننا أمام خطر مجتمعي حقيقي، وأصبحنا في أمس الحاجة لضبط المحتوى المنشورعبر منصات التواصل الاجتماعي، ومواجهته بالقانون، وأن تكون هناك جهات متخصصة تضم المتخصصين من علماء الاجتماع وخبراء التسويق وخبراء التكنولوجيا وغيرهم، لدراسة وتحليل المحتوى ومحاربة كل ما يضر بالمجتمع، ولا نبالغ إذا ما طلبنا أن يتم تأهيل أبناءنا وشبابنا في المدارس والجامعات لمواجهة هذا العبث وكيفية استقبال الأخبار والروايات والمنشورات عبر منصات التواصل الاجتماعي، وتدريبهم على آليات التفكير المنهجي الصحيحة لكي لاتكون تلك المنصات أخطر وسائل الهدم المجتمعي وإشاعة الإحباط واليأس واستغلالها كسلاح للدمار المجتمعي الأشد فتكا من أسلحة الدمار الشامل.