الشاعر محمود سباق: أكتب وكأنني أرسم لوحة أو أنحت تمثالا وأريد لأشعاري أن تكون شجاعة | حوار
في عصرٍ ندر فيه الشعراءُ الحقيقيون وزمنٍ يصطنعُ بعضُهم قصيدةً ليخرجَ للناس بما لا يعبرُ عنهُ أو عنهم، يأتي الشاعر محمود سباق ليصنعَ الفارقَ.
محمود سباق هو شاعر مصري من مواليد البحيرة 1983، حصل عدة جوائز منها جائزة اليوبيل الذهبي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب 2018 عن ديوان محاولة لاستصلاح العالم، وجائزة الاتحاد العالمي للشعراء عن ديوان أوراق الجنوب والشمال.
للشاعر محمود سباق العديد من الدواوين الشعرية منها كان الوقت تأخر، عن دار المحروسة للنشر والتوزيع 2010، وأبناء القطط السوداء، عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة 2017، ومحاولة لاستصلاح العالم عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2018، وأوراق الجنوب والشمال عن الاتحاد العالمي للشعراء 2019.
وله تحت الطبع دواوين: النهر.. شعر وموسيقى، وغرام الغابة وقصائد أخرى، واللون والكلمة والنغم.. دراسات في الفن والتلقي
وإلى نص الحوار..
كيف أثر الجنوبُ والشمالُ في وجدانك؟
في قرية طيبة من قرى الدلتا يطلقون عليها اسم "الدَّراوِيَّة البَحَرِيَّة" التابعة لمركز أبوحمص بإقليم البحيرة. مصر، ولدتُ ونشأت وتربيتُ وتلقيت تعليمي الابتدائي والإعدادي وحفظت عن أمي مئات الحواديت والحكايات والسِّيَر، واستمعت معها منذ وَعى سَمعي إلى برامج الإذاعة المصرية وبشكل منهجي وخاص برامج إذاعة القرآن الكريم والبرنامج الموسىقي وإذاعة الأغاني والشرق الأوسط وصوت العرب، في بيتنا في الشمال تتحدث أمي لهجة أهل البحيرة وأبي يتحدث لهجة أهل قنا بالجنوب، وكان أبي هذا فارسا وعاشقا وحافظَ سِيَرٍ ومواويل، ولك أن تتصوري ما يمكنُ أنْ يحظى به فتًي عبقري مثلي (شاعر) نتيجةَ هذا التنوع إنني حين أتأمل حياتي ونشأتي، أبي وأمي وإخوتي وقريتي التي ولدتُ بها والأخرى التي أشتهيها أهلي هناك وأخوالي هنا. وباختصار شديد لقد أثر كل هذا في حياتي وفني، فإنك ترين في أعمالي حتى السردية منها هذا الأثر.. ترين الجنوب والشمال وتلمسين معاناة أبطالي وأفراحَهم، تستريحين تحت شجرة توتٍ وتشربين من النهر الجاري عبر القصائد.
متى بدأت تجربتك الشعرية؟
وبينما أنا منهمكٌ ومشغولٌ لأقصى درجة محاولا قيادة حواسي والمُضي بها قُدُمًا في طريق وعرة ودرب لم يسلكه بشر من قبل، متحفزا ومستمرا لا أستقر في مكان إلا لأرحلَ عنه، وأنا على هذه الحال من النُّزوع إلى الخلق والتكوين والاكتشاف ومحاكاة المبدع والخالق الأول وله المثلُ الأعلى.. وصلني بريدك يا صديقتي فإذا به مجموعة من الأسئلة حول تجربتي الشعرية والفنية، فياللتوارد ويالتراسل الحواس وياللقوة المتدفقة عبر حبال العلاقات التي تمتد بيننا وبين الآخرين والعالم، إنني أمضي شجيا وجريئا ومحاطا بهالة الاندفاع والارتباك ومن ثَمَّ التأمل في كل ما يحيط بي من واقع ووقائع، وإنني لا محالة أحمل في داخلي إحساسا عميقا _أثناء عملية الخلق والإبداع ليس فقط بالمتعة اللامحدودة بل وبالمسؤلية العميقة الخالصة أيضا، تجاه العالم، إنني أشعر بطوفان من الأفكار والأحاسيس يحتاح كل كياني ويدفعني كطيارة نفاثة مرة وكسلحفاة مرة أخرى، أسمع أصواتًا تملأ رأسي، وموسيقى تشعلُ حماستي وتهدهدني وأشعرُ بالذبذبات تسري في بدني وأرى في اللون مذبحةً وعُرسًا. أليست اللغةُ هنا فخًّا، لكن لا بأس إذ ليس أمامنا إلا اللغة لنقول لكم ما نقول لكم.
حين هَمَّ الرائي الأولُ ليقبضَ على صورته في الماء فاكتشف المرآة وأحب صورته فيها، وحين قام أول فنان بنحتِ وجهه على الحجارة، وخطَّ اسمه فوق الرمال، وحين انتهى الراعي من صنع نايه وعزف أول قطعة موسيقى، بل وابعد من ذلك حين كُنَّا لمْ نزلْ في بالِ الغيب أفكارًا وأوْرادًا تسيل.. بدأت التجربةُ الشّعريّة.
سافر أبي إلى نجع حمادي بقنا _ كان موظفا حينها بوازة الصحة_ بعد أن قضى إجازته معنا وكان من سُنَنِ وعادات أمي وأبي على مدار رحلتهما معا أن يتراسلا بالخطابات في اوقات غياب أبي للعمل، وما إن أجدتُ الكتابة والقراءة حتى توليتُ مهمة كتابة خطابات أمي.. وإنني لأجزم أنَّ الشعر والشاعر بدءا من هنا.. وما كان عليّ بعد ذلك إلّا أنْ أكتشف نفسي وأبحث في ذاتي والعالم عن حكاية تخصني وحدي وأسلوب عظيمٍ تتشكل به ومن خلاله تجربتي التي هي تجربة البشرية جميعًا. ولكي يحدثَ ذلك كان لابُدَّ من أساتذة حقيقيين ومن سِيَاقٍ حقيقيّ يحتوي كل هذه الطاقة المشتعلة الطليعية وبالنسبة لي وجدتُ هذا السياق في جماعة الشعر بدار العلوم القاهرة. ومراكز الثقافة بالعاصمة ووسط القاهرة بين الشعراء والفنانين.. كان هذا السياق الذي نَمَتْ واسْتَوَتْ فيه تجربتي وبدأ أوانُ تحققها.
ما النقطة الفارقة في حياة سباق؟
كلُّ مرة اكتشفتُ فيها حقيقةً كانتْ غائبةً عني هي نقطةٌ ومحطة فارقة كل انتظار وانتصار وانهزامٍ.. كلها لحظات فارقة في حياتي. والنقطة الفارقة في تجربتي الشعرية إلى الآن بعد سيرة الجنوب والشمال هي محطة أو قصيدة الأب والابن من النبع إلى المصب، إنها قصيدة رثاء وبعث لا تشبه في الفنون جميعها إلا قداس الموت لموتسارت وسيمفونية بيتهوفن السابعة وسيمفونية أنس الوجود لعزيز الشَّوَّان، تشبه جدارية الرسام المصري وهي تحكي حياة شعبه وملوكه على سقوف وجدران المعابد والمقابر.
كوني أحيا واتنفس واقرأ وأكتبُ في ظل ما يسودُ مناخنا كله وما "يترعرعُ في ووادينا الطيّب من السفلة والاوغاد" هي في حدّ ذاتها نقطة فارقة.
هل يعيش سباق الآن داخل لوحات الفن التشكيلي؟
وبينما كنَّا من تراب وماء ولَوْنٍ، من نفْخَةِ نَفَسٍ صادقةٍ، ومن كلمةٍ منتقاةٍ ومُلقاةٍ بعناية، كم أعجبتنا اللوحةُ وأسَرَتْنا الكلمةُ وكم وكم شَعرنا بالعناية والنَّغَم، فلا اللون ينفدُ ولا الكلمة تجِفُّ ولا العناية تغفلُ أو يزولُ الأثر.
وأنا حين أتأمل وأفكر في قصيدتي لا أغفلُ اللونَ أو النغم، إنني أكتب وكأنني أرسم لوحةً أو أنحتُ تمثالا أو أؤلفُ سيمفونية، وقد وجدتني مدفوعًا للاستغراق في الفن التشكيلي فلم أقاوم ووجدتني أميل لكل ما هو عميق وبسيط وأصيل وله دلالات متتعدة وليس مجرد التصوير الجميل، لدينا كبار في تاريخ الفن التشكيلي المصري والعربي منذ بدأ التاريخ والي الآن رغم سيطرة التقليد والتبعية الفنية الفجة، إلا أن ساحتنا العربية لا تخلو من مشاريع تشكيلية مهمة ومبتكرة وتحمل رسالة وتحكي قصةً استثنائية وأخلصت في انشغالي حتى قادتني عنايةُ الله ورباتُ الفنون وأهدتني إلى كتابة مجموعة من القراءات تحت عنوان اللون والكلمة والنغم.. دراسات في الفن والتلقي، تصدر قريبا إن شاء الله. والتي اعتبرها كلٌّ من الرسام العراقي سعد علي والرسام المصري علي المريخي والفنانة الليبية د. حميدة صقر، الذين عشت لوحاتهم وكتبت فيها وعنها_ فتحًا جديدًا في النقد التشكيلي وروحا جديدةً في قراءة التشكيل العربي.
وقد حاولت فيها أن أدخل ليس فقط إلى عالم اللوحة بل وصدر الفنان وأترك نفسي لأتقطر معه عبر الفرشاةِ على أرض اللوحة أو عبر الإزميل وهو يبعث الحياة في بَدَنِ كُتلةٍ حجرية. وبهذه الرؤية وهذا الاستغراق والإخلاص والتفاني أنتجت مجموعة شعرية جديدة تضم قصائد مثل جنة الألوان، وحديث النهر، وتشظي النغم، وعروس الدلتا والحظر الصحي، وغيرها. وتعالج هذه الثلاثية (الشعر والرسم والموسيقي)، ولما لا وإحدى الاشتراطات التي أقرها فاندينسكي رائد المدرسة التجريدية في الفن التشكيلي لكي تصبح رسامًا تجريديًْا ".. هي أن تُحِسّ وتشعر كموسيقي وأن تكون شاعرًا بالأساس.." لأن الشعر يأتي من التأمل والشاعر في عمله يعتمد أقصى درجات التكثيف والذي يفضي بدوره إلى التجريد أو على الأقل إلى مرحلة متقدمة منه. لذلك أنا أعيش حياتي كقصيدة أو لوحة أو قطعة موسيقى متجددة متجاوزة ولا أرضى لها غير ذلك، ذلك لأني لا اطمح إلى أن أكون نتيجة التأمل والقراءة والممارسة الحكيمَ أو الفيلسوف، إنما الشاعر.. والشاعر أوَّلًا.
ماذا تريد لشعرك أن يحقق؟
منذ أيام قليلة أخبروني من جامعة عبد الحميد بن باديس كلية الأدب العربي والفنون، بمستغانم الجزائر، أن رسالةً ومذاكرةَ بحث لنيل درجة الماستر في الأدب العربي الحديث عملتْ عليها الباحثتان الرائعتان "نجود بوخريصة" و"لطيفة بن نجار" بإشراف الشاعرة والأكاديمية المتميزة "حليمة قطاي". بعنوان (تجليات السرد في شعر محمود سباق)، أيُّ فرح وأيَّةُ سعادة يمكن أن تغمرَ الفنانَ مِنَّا وهو يرى القراء والباحثين من مختلف الأجيال يتفاعلون مع عمله الفني ويوثرونه بالدراسة والبحث، وينزلونهُ منزلته التي تليق به فيَقِرَّ لهم ويأنس بهم، ويشي بنفسه ويمنح ما كان مستعصيا قبل ذلك على الفهم والاستيعاب والتلقي، فكم هي جسورة روح الجزائر التي تسري في عروق رجالها وحرائرها وإنها لمناسبة لطيفة لأبارك لهما ولاحييهما وأحيي استاذتهما.
إنني أريد لأشعاري وكتاباتي أن تكونَ شجاعةً مثلما خرجتْ من صدري، وتواجه مصيرها مع القراء والمتلقين وتشاركهم مصائرهم، أريد لها أن تكون للجميع وألّا تكون لأحد بتعبير نيتشة بمعنى أن تظل محتفظة بسحرها وسرها وصيرورتها. إنَّ قصائدي لحمٌ ودَمٌ وروحُ قدسٍ تسري في بدن الطبيعة والوجود.
وأريدُ لنفسي ألَّا أتوقفَ وألا ينقطعَ النهرُ عن الجريان.. إنك لا تتخيلين يا صديقتي إلى أيّ مدًى ترتبطُ حياتي بجريانِ النَّهر وأحلامِ الضفاف.