هل يجدر بنا إعادة النظر في علم المصريات بمناسبة 200 عام على نشأته؟
ربما يجدر بنا فتح ملف علم المصريات، بمناسبة مرور مائتي عام على نشأة علم المصريات في أعقاب فك رموز حجر رشيد، والذي يوافق يوم السابع والعشرين من شهر سبتمبر/ أيلول.
وزاوية فتح الملف التي أعنيها الآن بالتزامن مع هذه الذكرى المحورية وهذا التاريخ الجلل في فهم الحضارة المصرية القديمة هي إعادة النظر في الأساس الغربي الذي قام عليه علم المصريات والذي يقسم التاريخ المصري القديم وينظر إليه من خلال سير الملوك والحروب والدول التي تعاقبت والأسرات التي حكمت وحسب.
في مقابل عدم إيلاء الانتباه الكافي، والدراسات العلمية لأحوال المصريين أنفسهم، كمواطنين وكصناع للحضارة، وليسوا على هوامش الملوك والدول والأسرات.
فأين هو الجانب الاجتماعي من حياة المصريين القدماء؟
ولا أقصد بهذا السؤال نفي الجهد العلمي ولا الكتابات السابقة التي تطرقت إلى هذا الجانب، ولكن أشير إلى هذا المنظور الذي حكم رؤية الحضارة الغربية للحضارة المصرية القديمة، كقصة ملوك متعاقبين، لا كحياة شعب بكل طوائفه.
بما انعكس على تقسيم علم المصريات واعتماده على شخوص ومراحل زمنية، لا تبرح هذا التصور النخبوي الفوقي الذي يرى أن الحضارة القديمة كانت في القصور والمعابد فحسب.
فعلى سبيل المثال، حين اكتُشفت مقبرة أحمس ابن إبانا وهو أحد الجنود المصريين القدماء، في قرية الكاب في المحاميد في أسوان، تم تحليل الكتابات التي تخللت مقبرته ومنها كان التراث والسجل الذي وثق كيف طرد المصريون الهكسوس!
وهنا لعبت هذه المدونة الشعبية لأحد الجنود، والذي قيل إنه ارتقى مناصب مرموقة فيما بعد، دورا خطيرا في كشف كواليس هذه المرحلة المفصلية من تاريخ مصر بأكمله.
رغم أن أحمس ابن أبانا، كان مجرد جندي بسيط في ذلك الوقت.. بل أين هو من القائد أحمس نفسه الذي طرد الهكسوس؟
غير أن الصدفة وحدها التي حكمت أن يحكي أحمس ابن ابانا سيرته الذاتية على جدران مقبرته، فنكتشف على هوامش حياته، تفاصيل عسكرية وتاريخية مهمة.
فمثلا لوحة نعرمر المشهورة والتي تشير إلى توحيد القطرين على يد الملك مينا، لا تلقى تفسيرا موحدا لدى كل علماء المصريات، بل يختلف تلقي الباحثين لها ولدلالات الرسوم التي تزينها.
وهذا يعاكس تصور الكثيرين من غير المتخصصين أن البرديات والنقوش تلقى فهمها موحدا وتدل على حقائق مجزوم بها في نظر الجميع.
وهو ما يعني ان الجهد البحثي المطلوب للتعاطي مع الحضارة المصرية القديمة، يحتمل مساحة هائلة من التنقيب في حياة المصريين البسطاء، والانطلاق من مدوناتهم لفهم مدونات التاريخ الكبرى، وللاشتباك تصديقا واستدراكا واستيثاقا للمنقوش من سير الملوك والكهنة.
ما زلت أرض علم المصريات بكرا، وربما بعد مرور مائتي عام على نشأته، يجدر بنا إعادة النظر لتقسيمه ولمنطق قراءته ولفلسفة فهمه.
*أ.د عصام السعيد أستاذ الآثار بجامعتي الإسكندرية والسلطان قابوس ودبلوماسي سابق.