فنّدت جميع الأزمات والمشكلات.. أبو الغيط يلقي كلمة مهمة أمام القمة العربية بالجزائر | نص الكلمة
ألقى الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، كلمة هامة أمام الجلسة الافتتاحية للقمة العربية الحادية والثلاثيين، حيث فنّد خلالها العديد من الأزمات الاقتصادية والمناخية والصحية والسياسية التي تواجه المنطقة العربية في الوقت الراهن.
كما تضمنت كلمة الأمين العام للجامعة العربية تطورات الأزمات التي تواجهها المنطقة من تدخلات خارجية، والقضية الفلسطينية وتطوراتها، إلى جانب تأثير جائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية على المنطقة، مختتما كلمته متطلعا أن تكون القمة "قمة لمّ الشمل العربي".
وإلى نص الكلمة..
«اسمحوا لي في البداية أن أتقدم بجزيل الشكر وعميق الامتنان لكم سيادة الرئيس.. ومن خلالكم إلى شعب الجزائر الحبيب، وحكومتها... على ما أُحطنا به من كرم ورعاية منذ وصولنا إلى هذه الأرض الخيرة.. وأن أهنئكم على تبوئكم رئاسة القمة في دورتها الحادية والثلاثين.. وأدعو الله أن يوفقكم إلى ما فيه خير أمتنا وشعبنا.. وأتقدم لكم بخالص التهنئة كذلك، باسم الجامعة العربية، في ذكرى اندلاع ثورة التحرير منذ 68 عامًا.. تلك الثورة العزيزة على قلوب العرب جميعًا.. والتي أعلت من قيم الحرية وحق تقرير المصير إلى حدِ تقديم تضحياتٍ لا توصف... لتصيرَ نموذجًا نادرًا ومثالًا باهرًا على ما يمكن أن تفعله الشعوب وتحققه إن هي أرادت والحرية والكرامة.
أبو الغيط يترحم على القادة العرب الراحلين
كما أتقدم بالشكر والتقدير للرئيس قيس سعيد، رئيس الجمهورية التونسية، على الجهد المقدر الذي بذلته تونس طوال رئاستها للقمة السابقة.
وأغتنم هذه الفرصة، سيادة الرئيس، لنترحم جميعا على القادة العرب الذين رحلوا عن عالمنا منذ انعقاد القمة الماضية، وكانوا في موقع المسئولية وقت أن وافتهم المنية... الرئيس الباجي قايد السبسي- رئيس تونس الراحل، وصاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، أمير دولة الكويت الراحل.. وصاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- سلطان عمان الراحل.. وصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات الراحل.. لقد تشرفتُ بلقاء ومعرفة هؤلاء القادة العظام، وأتذكر بكل تقدير وعرفان عطاءهم السخي لبلادهم وللأمة العربية جمعاء.
تلتئم هذه القمة بعد ثلاثة أعوام من انقطاعٍ فرضته ظروف الجائحة... وأحسب أن انعقاد القمة جاء في وقته، إذ إن ما يشهده العالم من تغيرات غير مسبوقة منذ عقود.. وما ترتبه هذه التغيرات في الظروف الدولية من تبعات هائلة على الشعوب والدول عبر العالم.. يجعل القمة ضرورةً واجبة، وفرصة سانحة لكي نرتب أوراقنا... ونناقش قضايانا ومواقفنا العربية في عالمٍ تتحرك أحداثه في سيولة مخيفة.. وتتوالى أزماته في تتابع مروِّع.
المنطقة العربية تقع في قلب الأزمات
إن المنطقة العربية، شئنا أم أبينا، تقع في قلب الأزمات.. فهي، من ناحية، ركيزةٌ أساسية في معادلة إمدادات الطاقة وأسعارها العالمية.. ومن ناحية أخرى، هي ضحية أولى للتغير المناخي وآثاره المُدمرة، من حيث الجفاف وغيره.. ومن ناحية ثالثة، تُعاني المنطقة من تهديد خطير لأمنها الغذائي، كما تقع غالبية دولُها في نطاق الفقر المائي... فضلًا عما تواجهه بعض دولها من تصرفات غير قانونية من جانب جيرانها من شأنها تعريض أمنها المائي للخطر.
إن هذه الثلاثية الخطيرة.. الغذاء والطاقة والمناخ.. تُمثل حلقة متصلة، ومنظومة مترابطة.. فإنتاج الغذاء يعتمد على أسعار الطاقة واستقرار المناخ.. والتغير المناخي يتأثر في الأساس بالانبعاثات المتولدة عن انتاج الطاقة.. والعناصر الثلاثة صارت عنوانًا للأزمة العالمية التي نشهدها حاليًا.. بكل تبعاتها الاقتصادية والإنسانية التي تتحملها الشعوب، والتي قد تشتد وطأتها في هذا الشتاء.. ولا شك أننا نتابع جميعًا الآثار المزدوجة للجائحة والحرب في أوكرانيا.. وما أفرزته ولا تزال من تبعاتٍ اقتصادية سلبية.. صار واضحًا أن العالم أجمع سيضطر للتعامل معها لفترةٍ طويلة قادمة.
إن دولنا العربية في حاجة ماسة لاستراتيجية شاملة للتعامل مع "حالة الأزمة الممتدة".. يحتاج الأمر في تقديري إلى تفكير طويل المدى من أجل تحصين المجتمعات العربية وتعزيز صمودها في مواجهة صدماتٍ داهمة ونوازل مفاجئة... ولدي اقتناع راسخ بأن مثل هذا التفكير لا يُمكن إلا أن يتبلور في إطار جماعي وبنهج تكاملي... إن في مقدور العرب فعل الكثير إن هم حشدوا الإمكانيات العربية، وهي كبيرة ومتنوعة، على نحو صحيح وبمنهج علمي... وليست استراتيجية الأمن الغذائي العربي، المعروضة على القمة، سوى نموذج ومثال واحد لما يُمكن أن تقوم به الدول العربية بشكل جماعي في مواجهة أزماتها.
إن الأوضاع العالمية تفاقم متاعب دولنا.. فهي تداهم المنطقة العربية وهي لم تخرج بعد من واحدةٍ من أخطر الأزمات والتحديات في تاريخها الحديث.. لقد مرّ على المنطقة عِقدٌ صعب، ولا زالت بعضُ دولِنا تعيش أوضاعًا لا تُهدد فقط أمنها واستقرارها.. بل وجودها ذاته...لا زالت الدولة الوطنية، ذات السيادة والاستقلال والقرار المستقل، تتعرض لهجمة شرسة في بعض أركان منطقتنا.. من الإرهاب والميلشيات والجماعات المسلحة.. وأيضًا من أطراف غير عربية، في جوار الإقليم العربي، تُحرض وتُمارس تدخلاتٍ غير حميدة في المجتمعات العربية بهدف بسط النفوذ والهيمنة.
إن الدفاع عن الدولة الوطنية، دولة المواطنة وحكم القانون.. التي لا يكون ولاء مواطنيها سوى لعلمها ومصالحها وعروبتها، هو دفاع عن مستقبلنا جميعًا.. وهذه الصراعات الدامية التي تُدمي قلب الأمة... هي تهديد لنا جميعا... وإنني أناشدكم، زعماء الأمة وقادتها، ألا تتركوا هذه الجراح النازفة تأتي على حاضر الأمة ومستقبلها.
إطفاء الأزمات العربية المشتعلة وليس فقط التخفيف من حدتهاأصبح واجبا
أعرف أن دولًا عربية تقوم بالكثير من أجل التخفيف من وطأة الأزمات، ومن أجل نجدة إخوانهم العرب في وقت الشدة... هناك، على سبيل المثال، دول تستضيف مئات الآلاف – وأكثر- من اللاجئين السوريين.. ودول تفعل كل ما بوسعها لكي لا يسقط إخواننا في اليمن والصومال في هوة المجاعة.. ولكن أقول بكل صراحة إن إطفاء الأزمات العربية المشتعلة وليس فقط التخفيف من حدتها أو التعايش معها... أصبح واجبًا أكثر من أي وقتٍ مضى.
لم يعد مقبولًا الإلقاء بأزماتنا العربية على كاهل مجتمع دولي ينوء بأحمال ثقال، وينشغل بقضايا أخرى ضاغطة ومُلحة.. إن الإرادة العربية قادرةٌ – في تقديري- على التدخل الفعال لتسوية الأزمات العربية، إن هي استجمعت قوتها الإجمالية... وهذه الجامعة العربية هي محصلةُ إراداتكم.. وقدرتها على التحرك والفعل مرهونة بحجم الدعم والتفويض الممنوح لها من الدول... ويقيني أنها قادرة على التحرك إن اجتمعت الإرادة وتحقق التوافق المطلوب.
إنني من أشد أنصار تعريب حلول وتسويات الأزمات التي تواجه بعض دولنا.. صحيحٌ أن المشكلات معقدة وتتشابك فيها المصالح والأيدي الإقليمية والدولية... لكن يبقى أننا كعرب نفهم بعضنا، ونعرف حدود مصالحنا أكثر من أي طرف خارج منظومتنا.. وهذه دعوةٌ لتكثيف الانخراط العربي في تسوية المشكلات والأزمات العربية... نأمل أن تُفضي إلى تحقيق نتائج إيجابية.
لا زالت التطورات في سوريا تحتاج إلى جهد عربي رائد ومبادر يضع البصمة العربية على خارطة تسوية الوضع المأزوم في هذا البلد العربي المهم.. ويحتاج الأمر إلى إبداء المرونة من جميع الأطراف المعنية حتى يُمكن تبديد ظلمة الانهيار الاقتصادي والانسداد السياسي وغلق صفحة الماضي بآلامها، والسعي نحو وضع جديد يُتيح انخراط سوريا في محيطها العربي الطبيعي، وفي جامعتها العربية التي هي من دولها المؤسسة.
أما في ليبيا، فإننا نتابع عن كثب كافة التطورات.. ونقول إن الأمور تحتاج إلى مزيدٍ من المرونة من كافة الأطراف الليبية -وبمساعدةٍ عربية أساسًا وهي ممكنة- من أجل تخطي العقبات التي تحول دون إجراء الانتخابات في القريب.. وستستمر الجامعة في متابعة الأمر بكل تجردٍ، واضعةً نصب أعينها هدف تحقيق تطلعات الليبيين على أساس قرارات مجلسكم الموقر.
وفي اليمن.. لا زال الحوثيون يراوغون ويُعرقلون.. ومع ذلك سنستمر في تأييدنا للحكومة الشرعية ودعمها بكل قوة لمصلحة الشعب اليمني.. فالتطورات الجارية في اليمن هي أحد أبلغ الأمثلة –للأسف- على التأثير الإقليمي السلبي، بل والمدمر، على الشأن العربي.
يُمارس اخوتنا في فلسطين صمودًا أسطوريًا على الأرض.. وقضيتهم هي قضيتنا جميعًا... ونضالهم الطويل شرفٌ لهذه الأمة، وبُشرى بأن ليل الاحتلال مهما طال سيبدده فجر الحرية والاستقلال.
إن تعزيز هذا الصمود الفلسطيني البطولي، والدفاع عن هذه القضية المحورية، هو واجبٌ على كل عربي.. ونتابع جميعًا ما يجري من تصعيد في الأراضي المحتلة بسبب سياسات القمع والقتل التي يُمارسها الاحتلال بدم بارد.. إنه تصعيد يُنذر بما هو أسوأ.. وللأسف الشديد يقف العالم مكتوف الأيدي.. لا يُدافع عن حل الدولتين سوى من طرف اللسان.
الإجماع العربي ما زال منعقدًا إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 67
إن الإجماع العربي ما زال منعقدًا على حل الدولتين كسبيل لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.. ولا نرى طريقًا لذلك سوى إطلاق عملية سلمية جادة، على أساس من المرجعيات المعروفة والقانون الدولي... وندعو جميع دول العالم للانضمام إلينا في هذا النضال السلمي، بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، والموافقة على عضويتها في الأمم المتحدة.
تحتاج دولُنا العربية، أكثر من أي وقتٍ مضى، إلى تعزيز شراكاتها عبر العالم.. إننا نتطلع إلى انعقاد القمة العربية-الافريقية الخامسة التي تلتئم في الرياض في العام القادم بإذن الله... وكذا إلى القمة العربية-الصينية التي تُعقد في الرياض أيضًا الشهر القادم.. ولا شك أننا سنغتنم هذه المنتديات الدولية المهمة لتعزيز المصالح العربية الجماعية ودعم مواقفنا على الصعيد الدولي.
نريد لهذه القمة أن تكون، وبحق، قمة لمِّ الشمل، ورأب الصدع، واستجماع الإرادة... وهناك من البشائر والعلامات الإيجابية ما يؤشر لأن هذه القمة سوف تواكب تطلعات الرأي العام العربي وطموحاته في أن يتحول التضامن العربي، وهو راسخ في الشعور والوجدان، إلى برامجِ عملٍ وخططٍ تكاملية يلمسها المواطن في حياته ويشعر بها في معاشه... وعلى الله قصدُ السبيل»