ارحموا نورهان !
في مايو الماضي وعلى نفس المساحة من هذا الموقع الذي أشرف بالكتابة والعمل به، كتبت عن نموذج نادر بين بنات هذه الأيام، لفتاة من ذوي الهمم ضربت أروع الأمثلة في برها بوالدتها، تلك الفتاة التي لا تقوى على الحركة بسبب إعاقة في قدميها، والتي رفضت أن تشتري لها والدتها جهازا تعويضيا بالتقسيط يساعدها في المشي، وذلك من أجل توفير ثمن قسط الجهاز لعلاج والدتها المصابة بورم في المخ ومريضة السكري، وذكرت وقتها أن الشيخ مجدي عاشور، مستشار مفتي الجمهورية وأمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، قال لها: « أنتِ ضربتي أروع الأمثلة في بر الوالدين، بل أفضل علاقة بين البشر على الإطلاق وهي الإيثار، فأنتِ بنت أمكِ وأم والدتك».
اليوم وبعد مرور أكثر من ستة أشهر على كتابة تلك السطور، أكتب والحزن يعتصرني ويكاد أن يقطع نياط قلبي عن نموذج آخر على النقيض تماما لفتاة بورسعيدية تدعى نورهان، ليس لها من اسمها أي نصيب، فهي ينطبق عليها قول المولى عز وجل في سورة النور: { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } [ سورة النور: 40 ].
هذه الظلمات أو التي تدعى نورهان تبلغ من العمر 20 عاما، ضربت مثالا لا نظير له في الجحود وعقوق الوالدين، وتجردت من كل مشاعر الرحمة والإنسانية حين قتلت والدتها بمساعدة جارها الذي شاهدته والدتها معه وحدهما في شقتها، فما كان من نورهان وجارها إلا أن قتلاها حتى لا تفضح أمرهما، وقبل أن تفيض روح السيدة إلى بارئها نطقت بالشهادة ثلاث مرات، ليرد عليها صديق ابنتها: «كفاية عليكي كدة»، ثم انقض عليها بضربة أودت بحياتها.
محاولات والدة نورهان في طلب الرحمة منها وتوسلاتها وهي تقول: «سييوني اتشاهد» لم تجد نفعا ولم تترك أثرا في قلب الفتاة، بل أنها شرعت في صب الماء الساخن على جسد والدتها لتتأكد أنها ماتت، أي قلب هذا الذي نقف أمامه! وأي دين تتبعه تلك الفتاة التي لم ترحم توسلات والدتها التي تعمل مشرفة عمال بأحد المستشفيات وتواصل الليل بالنهار حتى تنفق عليها!.. والتي سهرت على راحتها 20 عاما قضتها في تلبية طلباتها، ومن قبلها حملتها في بطنها 9 أشهر!
إنني الآن أتخيل نورهان وهي قابعة خلف جدران السجن الاحتياطي، وذلك المشهد يدور أمام عينيها وهي تنهي حياة والدتها بيديها دون اكتراث لصرخاتها وتوسلاتها وطلبها للرحمة، ثم لم تلبث أن انتهت من بكاء عنيف متواصل لتأخذها سنة من النوم ترى خلالها طيف والدتها التي تسألها: بأي ذنب قتلتيني يا فلذة كبدي؟ ألم يكن بطني لكِ وعاء؟ ألم يكن ثديي لكِ سقاء؟ ألم يكن حجري لكِ وطاء؟.. تصرخ نورهان ويعلوا صوتها بالنحيب بعدما أدركت أنها كانت في حلم قصير، ووخزة من وخزات الضمير العابرة، ورقة قلب وندم وحسرة بعد فوات الأوان.
إن حالة نورهان الآن تقتضي الرحمة، نعم فالرحمة كتبها الله على نفسه فقال جل شأنه: "كتب ربكم على نفسه الرحمة.." (الأنعام:54)، لكن كيف نرحم فتاة قتلت والدتها بدم بارد؟ ولماذا نرحمها من الأساس وهي لم ترحم أمها؟.. الرحمة في حالة نورهان هي القضاء بالقصاص العادل السريع، حتى نريحها من عذاب الضمير، ومن التفكير في مصير مجهول لا يعلمه إلا الله.. إن تلك الرحمة في حق نورهان هي أيضا رحمة بقلوبنا التي تمزقت حزنا وألما من هول ما ارتكبته في حق والدتها؛ لذلك أتمنى وكلي ثقة في قضاء مصر العادل أن يرحم نورهان ويرحمنا معها بحكم القصاص السريع، الذي يبرد نار قلوبنا ويشف صدور قوم مؤمنين.