ننشر نص كلمة بطريرك الأقباط الكاثوليك في قداس عيد القيامة المجيد
قال الأنبا إبراهيم إسحق، بطريرك الأقباط الكاثوليك، إننا نحتفل بـ عيد القيامة وسط أحداث يوميّة، عالميّة ومحلّيّة ومخاوف كثيرة منتشرة ومخاطر بيئيّة، وسط حروب مشتعلة وأوضاع اقتصاديّة قاسيّة ومؤلمة، كلّها تجسّد غياب النور وثماره، فكم من الضمائر المظلمة التي تجعل الشرّ خيرًا والخير شرًّا، والظلام نورًا والنور ظلامًا (أش 5: 25)، فلا نستطيع التمييز، إنّ العالم في ظلمة متعدّدة الأشكال، فقد فيه الكثيرون بيوتهم وسلامهم، وآخرون يتنفّسون القلق والاضطراب والخوف وعدم الأمان، عقول وضمائر ملتحفة بالظلمة رداءً، صارت منتجة للإثم ولمستقبل مظلم، أحداث شبيهة بأيّام المسيح: فحُكم عليه ظلمًا، بلا عدالة وسط توتّرات سياسيّة ودينيّة وضاع الحقّ والنور، ومن كثرة الإثم تبرد المحبة وتزداد الكراهيّة وأعمال الظلمة.
ما معنى النور؟ وما معنى الظلمة؟
وأضاف بطريرك الأقباط الكاثوليك خلال عظة قداس عيد القيامة اليوم السبت: يحتلّ موضوع النور مكانة متألّقة في الكتاب المقدّس بعهديه. ففي النور نستطيع أن نرى الأشياء بوضوح، أمّا في الظلام فلا نرى شيئًا، في النور نسير في أمان واطمئنان، أمّا في الظلام فنخاف ونعثر.
وأوضح: أوّل عمل قام به الخالق هو الفصل بين النور والظلام، خلق النور في اليوم الأوّل وخلق الشمس والقمر في اليوم الرابع، وهذا دليل على أن الله هو مصدر النور وليس الشمس والقمر.. الله نور وليس فيه ظلمة البتة (1يو 5:1). وبما أنّ الله نور فوصاياه نور وكلامه نور.
وأردف: يرمز النور أيضًا في الكتاب المقدّس إلى أمرين، جانب الفكر ويشير إلى الحقّ ومعرفة الله، وجانب الحياة والأخلاق ويشير إلى القدّاسة. لذلك نحن مدعوون إلى أن نقبل الحقّ ونعيش حياة مقدّسة تليق وترضي الله.
وتابع: وعلى النقيض من ذلك فالظلمة هي غياب النور، فالنور هو المعرفة والظلمة هي العمى الذي يمنع المعرفة ويسبّب عدم القدرة على رؤية بشارة الإنجيل. والفكر المظلم يشير إلى الجهل وعدم معرفة الله، وهذا يؤدّي إلى الظلمة الأخلاقية التي هي الشرّ والإثم.
وأكد قائلا: أظهر السيد المسيح من خلال حياته وأعماله وكلامه المنير أنّه نور العالم، وأعلن قائلا "أنا نور العالم من يتبعني لا يمشي في الظلام بل يكون له نور الحياة" (يو 12:8). ولكنّه أيضًا قال لأتباعه "أنتم نور العالم"، فما الفرق إذن؟.. الفرق يظهر كما في مثال الشمس والقمر. نور الشمس نورٌ بذاتها، أمّا القمر فهو كوكب مظلم، ولكنّه يكتسب نوره من انعكاس نور الشمس عليه. هكذا السيد المسيح هو "النور الحقيقيّ الذي ينير كلّ إنسانٍ آتٍ إلى العالم". أمّا نحن فنصير نورًا بقدر ما نستمدّ من نوره البهيّ أيّ "بنوره نعاين النور". وبما أنّ المسيح نور، فعلى المسيحيّين أيضًا أن يكونوا أبناء النور ويسلكوا كذلك.
واستكمل: ثانيًا: فسيروا سيرة أبناء النور، لأنّ ثمر الروح هو في كلّ صلاح وبرّ وحقّ (أف 5:8-9)، وتقدّم لنا رسالة القدّيس بولس إلى أهل أفسس نموذج الحياة المسيحيّة. ومَن هو المؤمن الحقيقيّ، وكيف يحيا في العالم، وكيف يسلك ويتصرّف كخليقة جديدة؟ ويمكن أن نلخّص ذلك في عبارتين: الأولى "اسلكوا كما يحقّ أو بما يتّفق" أيّ لتكن حياتكم موافقة لهويّتكم. فإن كنتم خليقة جديدة في المسيح اسلكوا بتلك الطريقة، والثانية "كونوا متمثلين بالله" أو اقتدوا به. يؤكد ذلك أيضًا القدّيس بطرس في رسالته الأولى: "تبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح الذي شملنا بوافر رحمته وولدنا ثانيةً لرجاء حيّ بقيامة المسيح من بين الأموات" (ابط 1: 6).
وأضاف: والولادة تمنحنا صفات مَن خرجنا منه، وننالها في سرّ المعموديّة الذي يسمّى أيضًا سرّ الاستنارة. وبالتالي فنور القائم من بين الأموات ليس مجرّد إشراق، بل هو نورٌ يملأ کیان من يتّحد به، لذلك أصبحنا نورًا بعد أن كنّا ظلمةً. يؤكّد ذلك السيد المسيح ويحملنا المسؤوليّة بقوله لنا "أنتم نور العالم". فعلينا أن نجسّد نور القائم من بين الأموات لكلّ إنسان نلتقي به في واقع حياتنا اليوميّة، وسط ما يكتنف العالم من ظلمة وتحت أي ظروف. وذلك بأن نسلك سيرة أبناء النور. فأبناء النور يرَون كلّ شيء بعين الله ويسلكون في نهار روحيّ.. وفي الخلق قال الله "ليكن نور" ليريَنا مجدَه ونتمتع بأعماله المنظورة. وفي قيامة المسيح وهبنا نورًا جديدًا وهو أن نصير خليقة جديدة ونتمتع بمجده غير المنظور الذي هو مجد القيامة فينا.
وتابع: ليسأل كلّ منا نفسه أين أنا من المسيح؟ أين أنا من نوره؟ من حياته وتعاليمه المنيرة؟ إنّ المسيحيّ شخص يسلك في النور، ولديه رغبة وخطّة هي أن يتمثّل بالمسيح الحيّ الذي أحبّنا وبذل نفسه من أجلنا وهدم شوكة الخطيئة. ليست الحياة الجديدة عمليّة سحريّة ينالها المؤمن، بل عليه أن يشترك في موت وقيامة المسيح. ولكي يصبح إنسانا جديدا، عليه أن يخلع الإنسان العتيق بأعماله وشهواته وكبريائه، ويتجدّد بالروح القدس في ذهنه وعقله، فيلبس الإنسان الجديد على صورة المسيح في العدل والقدّاسة التي تثمر كلّ ما هو حقّ وبرّ وصلاح.. ليرَوا أعمالكم الصالحة فيمجّدوا أباكم الذي في السماوات" (متى ٥: ١٤-١٦). والكتاب المقدّس مملوء بالمفاهيم الروحيّة والتوجيهات العمليّة، ثمار هذه المسيرة.
واستكمل: على سبيل المثال: التحرّر من كلّ ما هو كذب وزيف ومن ظلمة الضمائر، والتحلّي بالعدل والاحترام والرحمة تجاه الأخرين والإحساس بأتعابهم ومساعدتهم على أن يعيشوا بضمير حيّ مستنير. باختصار السير في المحبّة التي هي مقياس الكمال.
واختتم: في صلاة باكر نتذكّر النور الحقيقيّ، نور القيامة الذي أشرق في قلوبنا ونطلب من الله أن يخلق فينا الحواس المضيئة والأفكار النورانيّة. ليُنِرَ الربّ قلوبنا وحياتنا بنور معرفته الحقيقيّة ويكمّل كلّ نقص فينا بنعمته حتّى نسمع صوته وفكره من خلال روحه القدّوس، فنكون نورًا بعضنا لبعض.