حكايات جدتي
كانت جدتي لأمي رحمها الله، سيدة ريفية مملوءة بالطيبة، كل الأحفاد كانوا يحبونها، لحنانها المفرط معهم، وعطفها عليهم، وحكاياتها التي لا تنتهي.
كنت أنتظر الليل بفارغ الصبر، وأطلب من أمي أن أذهب لأنام معها، على أن أعود مبكرا للذهاب إلى المدرسة، حتى أنعم بدفء حكاياتها، ولأعيش في عالمي الخاص مع كل حكاية، أتخيل أنني بطلها وأفرح وأتألم لما يصيبه، واحتج لما يكابده من مشقه.
فكانت تحكي ولا تتوقف كل ليلة حكاية مختلفة، من نسج خيالها وتكررها كانها مطبوعة في ذاكرتها، تحكى عن الحب والخيانة، والأمانة والبطولة، والوفاء، والغول والقط المسكين، والشاطر حسن، وأمنا الغولة، والأسد والفأر، حكايات لا تنضب ولا تمل من سماعها، وكنا أيامها حديثي العهد بالكهرباء والتي كانت تأتينا على فترات متباعدة، ولا يملك سوى القليل أجهزة تليفزيون.
فكانت هي العالم بالنسبة لنا بعد يوم شاق في الحياة من زرع وحصد ومدرسة وكتاب تحفيظ القرآن الكريم.
كنا ننتظر غياب الشمس لنلتف حولها وعلى سريرها لتقص لنا حكاية الشاطر حسن وكيف فاز بقلب حبيبته رغم ظروفه التي قهرها ووسط معارضة شديدة، إلا أنه كد وتعب وصنع نفسه وأصبح جديرا بالفوز بمن يحب، وكذلك حكايات عن البخيل والخائن ونطلب منها تكرار قصة فتعيدها بنفس السيناريو فهي لو أخطأت كنا نهب بسرعة ونقول حدث كذا وكذا فلابد أن تلتزم بما صنع ودمج في خيالنا.
وعندما نضغط عليها في المزيد من الحكي تحكي لنا عن أمنا الغولة، والسلعوة، والجن والعفاريت، والظلام يحيط بنا، والخوف أصبح يملئنا لدرجة أنك لا تستطيع أن تترك الغرفة خوفا من هذا العفريت الذي ينتظرنا خارجها.
كنا ننام بعمق يحيطنا الدفء برغم قسوة الأيام إلا أننا عرفنا الرضا والقناعة والحب والإخلاص، والإنسانية تغمر قلوبنا،لا حياة بدون حب ولا نوم بدون حكايات جدتي.
كانت حكايات جدتي هي الأجمل والأروع، تعلمنا منها معنى الوفاء، والحب، والعطاء، واحترام الصغير للكبير، وعطف الكبير على الصغير، كل حكايتها كانت حكم.
عندما قرر والدي أن أذهب إلى كتاب القرية لحفظ كتاب الله، صنعت لنا شنطة من القماش لنضع فيها جزء عم والقلم والكراسة، وأسير مختالا وأنا أحمل شنطتي، وأصبحت اليوم مسئولا، وسأكتب مثل الكبار، وسيأتي يوم لأدون فيها قصصا مثل التي أسمعها منها ليلا، وسأشتري يوما قصصا كثيرة لأقرأ لها عن حكايات لم تعرفها.
ذهبت إليها بعدما أنهيت جزء عم، وتخيلت نفسى شيخا كبير، ومن حقى أن أكون إماما للمصليين، وهي تطلب مني أن أنهي حفظ المصحف كاملا، وستكون لي هدية كبيرة.
في يوم ذهبت إليها أحكي لها عن مغامرتنا مع طيارة الرش، وإنني كبرت وصار عمري 10 سنوات، فقد تم اختيارنا لنقوم بتحديد مسار طائرة رش القطن وسلمونا أعلاما بيضاء، نضعها في قمة عود من الغاب الطويل، لنقوم بغرسها على حدود الأرض المزروعة قطن، وعلى مسافات متباعدة، وننتظر نراقب بكل قلق متى سيأتي الطيار، سنراه عن قرب وسيلوح بيدية لنا، ونجرى بكل ترقب كأننا نسابقه لنزيل تلك الرايات التي مر عليها، فمستقبل نجاح زراعة القطن في أيدينا، ونحن في مهمة قومية، نسابق الريح وكأننا نسبق طائرة الرش، وفي كل مرة نتخيل أنه يرفع يديه ليقول لنا تمام أحسنتم.
وفي نهاية المهمة نجمع راياتنا ونحملها فرحين ونحكي حكايات لم تحدث بيننا وبين الطيار، الذي كان يحاول أن يخطف الراية لكننا كنا أسبق منه، وعدنا ومعنا كل الرايات بدون أن يخطف منها راية كما كانوا يقولون لنا.
رحم الله جدتي وكل الجدات والأمهات رحمة واسعة.