عرفة يوم العفو
رأينا جموع الحجيج تتوجه إلى بيت الله الحرام، جاءوا من كل فج عميق، والمرء إذا رأى هؤلاء رأى الطهر الذي ينبت من أعماقهم بطهارة هذا البيت العظيم، وتذكر دعوات سيدنا إبراهيم عليه السلام، وتذكر ربنا سبحانه حين قال له: (وَطَهِّرۡ بَیۡتِیَ لِلطَّاۤىِٕفِینَ وَٱلۡقَاۤىِٕمِینَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ) [سُورَةُ الحَجِّ: ٢٦].
وها نحن نعيش اليوم أعظم أيام الدنيا، يوم العتق من النار، يوم العفو والغفران، يوم العيد لأهل الموقف... يوم عرفة.
هنيئًا لمن رزقه الله الوقوف بذلك الموقف، حين ينادي الحجيج "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
حين يلجأ الحجيج إلى الله بقلوب منكسرة، ودموع منهمرة، يتضرعون إلى الله بحبيبه ومصطفاه عليه صلوات الله أن يأمن خوفهم، وأن يغيث ملهوفهم، وأن يغفر لمذنبهم، وأن ينصر مظلومهم، كل علي قدر همه ومطلبه وشكره ومبتغاه وطلب رضاه سبحانه وتعالى في علاه.
أيام عظام تعيشها أمة الإسلام، فعلينا أن ننتهز الفرصة وندعو الله جل علاه أن يكشف عنا من البلاء ما نعلم وما لا نعلم وما هو به أعلم.
يقول الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه لطائف المعارف: من لم يستطع هذا العام الوقوف بعرفة؛ فليقم لله بحقه الذي عرفه.
ومن لم يستطع المبيت بمزدلفة؛ فليبيت علي طاعة الله وقد قربه الله وأزلفه.
من لم يقدر علي نحر هدية بمنى؛ فليذبح هواه هنا ليبلغ به المنى.
ومن لم يستطع الوصول إلي البيت لأنه منه بعيد؛ فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلي من رجاه ودعاه من حبل الوريد.
يا كل مقصر في حق الله ورسوله: عليك أن تغتنم هذا اليوم العظيم لعلك تمنح نفحة من نفحات ربك لا تشقى بعدها أبدا.
فأخبرنا عليه صلوات الله "ألا إن في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها " صدق سيدنا رسول الله عليه صلوات الله.
ثم يجيء عيد الأضحى، الذي بذكراه ضربت أروع الأمثلة في التضحية من أجل الله جل جلاله، وأروع الأمثلة في طاعة الوالدين.
حين أمر الله تعالى سيدنا إبراهيم أن يذبح ولده إسماعيل فما كان من الولد إلا أن قال: ( یَـٰۤأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِیۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِینَ) [سُورَةُ الصَّافَّاتِ: ١٠٢].
ختامًا أقول: إن يوم عرفة هو يوم العتق من النار، فيغفر الله فيه لمن وقف بعرفة ومن لم يقف بعرفة من سائر المسلمين.
والدليل علي ذلك أن جميع المسلمين يشتركون في العيد وليس فقط من حج، كما أنه سبحانه شرع لجميع المسلمين التقرب إليه بالأضاحي وليس فقط من حج، ولذلك فإن يوم عرفة هو يوم العفو عن الذنوب.
وقد نزل فيه قول الله تعالى: (ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینࣰاۚ) [سُورَةُ المَائـِدَةِ: ٣].
اللهم في يوم إكمال الدين وإتمام النعمة، أسألك بسيدنا نبي هذا الدين وصاحب كل نعمة، أن تجمعنا جميعا علي عرفات، وأن ترزقنا زيارة سيد المخلوقات عليه أفضل الصلاة وأتم التسليمات... اللهم امين.