الطريق إلى النصر "حرب الاستنزاف"
كان وقع النكسة مريرا على الشعب المصري والعربي، حتى قيل إن عبد الناصر مات في 67 ودفن في 1971 من وقع الهزيمة القاسية.
لكن عبدالناصر بعد تراجعه عن قرار التنحي، بدأ في إعادة بناء القوات المسلحة، وتخلص من كل رجال المشير عامر المتآمرين، وانتحر رفيق دربه تاركا في نفسة جرحا عميقا، وصراعا نفسيا داخل عبد الناصر وهذا ما تعرضنا له في جزء من المقال السابق.
لكن يؤكد البعض في مذكراتهم أنه تم صنع سياج حول عبدالناصر من علي صبري قائد التنظيم الطليعي ونائبه، وشعراوي جمعة، وأمين هويدي، وسامي شرف وغيرهم آخرون يرى بعيونهم كل شيء، فقد انكسر عبد الناصر وضاع حلمه القومي بعد النكسة، لكن بقي همه الوحيد إزالة آثار العدوان، وترك لهم إدارة شئون الوطن الداخلية ووضع تركيزه كلة في المعركة.
واندفع بعلاقته مع موسكو، حتى قيل إننا ارتمينا في أحضان السوفييت، بل تمادى البعض بأن مصر أصبحت دولة شيوعية وهذا بالطبع غير صحيح، قد يكون لموسكو عيونها في مصر وحول عبد الناصر نفسه كـ علي صبري على سبيل المثال، وقد لا يكون هناك خيار بطبيعة الأحوال والتحالفات وحالة العداء التي صنعها عبدالناصر مع الغرب في العموم، والولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، على وجه الخصوص.
لكن في الواقع قدم السوفييت في تلك الفترة وخصوصا بعد الهزيمة الكثير لمصر، قد يكونوا تعنتوا قبل حرب يونيو، وأرهقوا عبد الناصر شخصيا في مطالبتهم بإمداد مصر بالسلاح لكنهم بعد الهزيمة، لم يبخلوا على مصر بأي شيء.
بالطبع قد يكون لهم أطماعهم في منطقة الشرق الأوسط والامتداد الإفريقي، ولكن الواقع يقول إنهم ساندوا مصر في كبوتها، فساعدوا في بناء حائط الصواريخ، ومدوا مصر بالسلاح والذخيرة، والفنيين والتقنيين، بل وجاء طياروهم لحماية سماء مصر بأكثر من ثمانين طائرة ميج في وقت دمرت قواتنا الجوية كلها في النكسة، وتم إعداد طيارينا وتدريبهم وصقل مهاراتهم ودخلوا مسرح العمليات لمجابهة احترافية طياري العدو، في نفس الوقت يستطيع الطيران الإسرائيلي الوصول إلى أي نقطة داخل الأراضى المصرية لأن سماء مصر مكشوفة وبدون حماية.
إسرائيل كانت تتباهى بقواتها العسكرية التي تظن أنها لا تقهر، وشيدت خط بارليف المنيع، ووضعت أنابيب النابلم في القناة لتحولها إلى كتلة من اللهب لو حاولنا المرور فيها، وبدأت تحصن مواقعها على طول خط المواجهة بطول قناة السويس، واعتقدت أن حرب يوينو 67 هي نهاية الحروب، وأن مصر انتهت وبدأ عهد إسرائيل في المنطقة على أرض لم تحلم يوما بها، بعد أن ضمت إليها الضفة الغربية، والقدس الشرقية، والجولان، وشبه جزيرة سيناء، وهي تظن أن الجيش المصري انتهى ولن تقوم له قائمة مرة أخرى.
لم تحترم إسرائيل قرار مجلس الأمن رقم 242 والصادر في 20 نوفمبر 1967 (أ - سحب القوات المسلحة من أراض (الأراضي) التي احتلتها في النزاع. ب - إنهاء جميع ادعاءات أو حالات الحرب واحترام واعتراف بسيادة وحدة أراضي كل دولة في المنطقة واستقلالها السياسي وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها وحرة من التهديد وأعمال القوة )
فكما رأينا من نص القرار الذى يقر أنه لا يحق لأي دولة احتلال لأرض بقوة السلاح وأن إسرائيل فى ذلك تحتل أرضا غير أراضيها، لذلك حق لمصر استعادة ارضها بالقوة فما اخذ بالقوة لا يسترد إلا بغيرها، فكانت حرب الاستنزاف، وأمام إصرار عبدالناصر على استرداد الأرض وعودة الكرامة المسلوبة، بإعادة تنظيم الصفوف.
حرب الاستنزاف كانت خير دليل على شجاعة الجندي المصري وتضحيته وفدائيته، فقد أعادت حرب الاستنزاف لهم الثقة بالنفس، ورفعت روح الجنود المعنوية، ووضحت للقادة مدى الجاهزية والاستعداد للحرب الشاملة حرب التحرير المنتظرة، وما تحتاجه القوات من أسلحة وتدريبات على الخطط والجاهزية للمعركة الكبرى.
فتم أيضا تشكيل منظمة سيناء والقيام بعمليات عسكرية وفدائية خلف خطوط العدو كبدته خسائر فادحة، وتم تقديم بطولات تسطر في التاريخ بحروف من نور على فدائية وشجاعة المقاتل المصري الفدائي، الذي يقدم روحه ودمه في سبيل تحرير الأرض المسلوبة.
وقد قامت قواتنا على طوال خط المواجهة بمواجهات يومية مع العدو، وانتقلنا من مرحلة الإرهاق له الى مرحلة التحرير بعد الخسائر الكبيرة التي تعرض لها، وسط صمود المصريين ويقظتهم لصد أي هجوم معادي.
كانت الحرب شرسة لم يرضخ الجانب المصري للهزيمة ولم يرض الاستكانة كما ظن العدو واضطر الإسرائيليون إلى شن غارات جوية على العمق المصري، واستهداف أماكن مدنية لإثارة الشعب ضد قيادته السياسية، لإرغامه على وقف الحرب، فقد تم ضرب كثير من الأماكن في ربوع مصر في قنا واسيوط وحلوان وأبو زنيمة ورأس غارب ومصنع أبو زعبل ومدرسة بحر البقر وغيرها من النقاط الدفاعية والعسكرية المصرية، بل والمدنية، لإرهاق مصر أيضا لإجبارهم على التوقف.
ودخل الطياريون المصريون برغم قلة خبرتهم في معارك جوية ضد اليهود لضرب غطرستهم، وأكسبتهم الخبرة والجاهزية، وفي نفس الوقت يتم بناء حائط الصواريخ بإشراف السوفييت وبسواعد مصرية تحت القصف لم تخمد عزائمهم.
وقد استشهد الفريق عبدالمنعم رياض وهو يتفقد الخطوط الأمامية على طول خط المواجهة، مما زاد من رغبة المصريين على الأخذ بالثأر للجنرال الذهبي، وقيام البطل إبراهيم الرفاعي بعمليات بطولية عظيمة هو ورفاقه في المجموعة 39 قتال ستظل تروى جيلا بعد جيل.
فقد تم تدمير الحفار الإسرائيلي في ساحل العاج، وإغراق المدمرة إيلات، وتدمير أجزاء من خط بارليف والنقاط والدشم الحصينة، وعمليات كثيرة تمت خلف خطوط العدو، كبدت الإسرائيليين خسائر كبيرة، جعلت الشعب الإسرائيلي يسخط على قيادته، ولجأت إسرائيل إلى الولايات المتحدة لتنقذها فأمدتها بالسلاح والطائرات الفانتوم بل بكل وسائل المساعدة أمدتها أمريكا لتصمد اسرائيل في تلك الحرب.
لكن في النهاية رأت الولايات المتحدة الأمريكية أن نتائج الحرب لا تحقق طموحاتها، ووسط ازدياد نفوذ السوفييت في المنطقة، مما جعلها تقود مبادرة عن طريق وزير خارجيتها روجزر بوقف تلك الحرب لمدة 90 يوما، مما جعل عبد الناصر يفكر في قبول المبادرة حتى يتم استعادة أنفاس القوات وإعادة تنظيم صفوفها، ورأت فيها إسرائيل الخروج منها من أزمتها وغضب الشعب الإسرائيلي، فتم قبول المبادرة من الطرفين يوم 8 أغسطس 1970.
صحيح تأثر الوضع الاقتصادي المصري وذهب كل ايراد الدولة لخدمة المجهود الحربي، في وقت تكاتفت كل فئات الشعب في تحمل أعباء المرحلة الحرجة القاسية، وبدأ البعض في جمع التبرعات لتسليح الجيش، حتى تم تحرير الأرض بمعركة العبور ولنا معها لقاء آخر.