مات عبد الناصر
كانت هزيمة يونيو 1967 قاسية على الجميع، وظلت كابوسا يطارد عبدالناصر، فبعد قراره بعدم التنحي بعد المظاهرات العارمة التي طالبته بالعودة عن قرار التنحي، كان تركيزه الوحيد في استعادة الأرض المسلوبة، وإعادة هيكلة الجيش وتسليحه وتدريبه، والوقوف على جاهزيته للدخول فى معركة استرداد الأرض، وشعار المرحلة ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وأن قرار الأمم المتحدة 242 سيظل حبرا على ورق لن تحترمه إسرائيل، وستظل الولايات المتحدة الأمريكية داعمة لإسرائيل ضد مصر، واتجه عبد الناصر بكل خسارته إلى الكتلة الشرقية ليحصل على السلاح.
كانت حرب الاستنزاف دليل قوي على أننا لن نستسلم، ولن نفرط في شبر من أرضنا، وكانت تلك المعارك تجربة قوية للجيش للتدريب والوقوف على جاهزيته لمعركة شاملة كبرى، حتى تم وقف إطلاق النار بموجب الموافقة على مبادرة روجرز، وانتهت حرب الاستنزاف في 18 أغسطس 1969.
فهاجم بعض العرب مصر لقبولها المبادرة، وتم غلق إذاعة فلسطين في القاهرة لتطاولها على مصر، حتى كانت أحداث أيلول الأسود والاشتباكات بين الفلسطينين (منظمة التحرير الفلسطينية) والأردنيين (القوات المسلحة الأردنية)، وكان الموقف عصيبا وخطيرا وتداعيات الاشتبكات تنذر بكارثة.
فدعا عبد الناصر الأطراف المتصارعة الملك حسين وياسر عرفات بوجود بعض القادة العرب إلى القاهرة للاجتماع للضغط على الملك حسين لوقف القتال، وعلى ياسر عرفات لانسحاب الفدائيين من الأردن إلى لبنان، وفض هذا الاشتباك.
وبذل عبد الناصر المريض بالسكري مجهودا ضخما لصد هذا التفكك العربي، حتى انتهى المؤتمر وقام بوداع آخر ضيوفه وهو يعانى من أزمة قلبية، وعاد إلى البيت في منشية البكري وهو مرهق وفي حالة إعياء شديدة جراء تلك الأزمة القلبية، وتم استدعاء الأطباء لبيته ولكن إرادة الله قد نفذت، ورحل عبدالناصر، وكتب الأطباء فى تقريرهم أن الوفاة نتيجة تصلب في الشرايين والدوالي ومضاعفات مرض السكري الذى كان يعانى منه.
كان خبر وفاة عبد الناصر صدمة كبيرة جدا، فبمجرد إعلان السادات وفاته فى بيان متلفز، خرجت الجماهير في كل ربوع مصر، بل وفي كل أرجاء الوطن العربي، وإفريقيا تبكيه غير مصدقة أن عبدالناصر يموت، واجتمع في جنازته أكثر من 5 ملايين شخص حازنون على وفاته وغير مصدقين أن عبد الناصر مات.
عندما سألت والدي هل تذكر يوم وفاة عبد الناصر؟، قال: لقد حملنا النعش فارغا وطفنا به القرية وكل القرى المجاوى تصطف معنا في مظاهرة حب لعبد الناصر الذي طبق قانون الإصلاح الزراعى، نعم بكيناه على الرغم أننا لم نره لكننا أحببناه.
بعد مرور كل تلك السنوات مازل هناك تيار يعشق كل خطى عبد الناصر، وآخر يحمل له خطايا حدثت في عهده.
عبد الناصر لم يكن ملاكا ولا قديسا، كان بشرا يخطئ ويصيب، ولكننا جيل لم نعش فى عهده، ولكننا تركنا وسط فوضى عارمة من المذكرات، والكتب منها من يتجنى عليه ومنها من يصعد به إلى عنان السماء.
عبد الناصر الذي اكتسب شعبيته بعد حرب 1956، وتأميمه قناة السويس، هو الزعيم العربي في مؤتمر باندونج 1955 الذي تخطت شعبيته جدران الوطن العربي، هو الذي بنى السد العالي وطبق قانون الإصلاح الزراعي، وتم إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، هو من بنى المصانع والقلاع الصناعية، ودعم حركات التحرر من الاستعمار في اليمن وتونس والمغرب والجزائر وليبيا والكونغو وغيرها من البلدان التي دعمها لتتحرر من سطوة الاستعمار، ودعم القضية الفلسطينية، وانتشرت أفكاره القومية في أرجاء الوطن العربي.
هو الذي طبق قرارات التأميم ليحقق العدالة الاجتماعية ويقضي على الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم كما جاء في بيان حركته، وكان ظهيره العمال والفلاحين، ورمانة ميزان قوته الطبقة الوسطى الذي سعى إلى إرضائها على حساب الإصلاحات.
وهو نفس الشخص الذي هزم في حرب يونيه 1967، واحتلت سيناء في عهده، وأمم الصحافة، وكبت الحريات، وضرب بالقانون والدستور عرض الحائط، ووأد الديمقراطية، وألغى التعددية السياسية وحل الأحزاب وجعلها فى النهاية تحت لواء الاتحاد الاشتراكي، لم يسمع إلى صوته، ولم ير إلا نفسه، حتى قيل إنه تحول إلى نظام قمعي ديكتاتوري.
هو الذي أهمل الجيش وتركه في يد عامر الذي أحاط عامر نفسه بمن يحملون الولاء فتربعوا على المراكز القيادية وكانت كارثة يونيو 67 بجيش ضعيف يعاني من سوء التسليح وانعدام التدريب، هو من جعل الشعب يعاني من سوء الأوضاع الاقتصادية، وحرب استنزاف تبتلع كل الدخل القومي لمصر، وشعب يتحمل في صمود قسوة الأوضاع ليحرر الأرض المحتلة.
هو الزعيم القومي العروبي الذي فشلت الوحدة في عهده مع سوريا، وأنهكنا في حرب اليمن، ودخل فى حالة عداء مع بعض الأنظمة العربية والأجنبية، حتى مع رفاقه من الضباط الأحرار.
لكن برغم كل تلك الانتقادات التي قرأتها في كتب كثيرة من مذكرات شخصيات عامة وقيادية عاصرت عبدالناصر، وبرغم قسوتها والتي تجعلني في حيرة أن تلك الفترة تحتاج إلى إعادة صياغة مرة أخرى، لأن من حقنا أن نقرأ التاريخ بشكل صحيح، لا أن نترك عرضه لأهواء فوضى أصحاب المذكرات التي نالت من الرجل، أو التي أنصفته، لأننا في نهاية المطاف سنتجه بأهوائنا إلى فريق منهم، بدون أن نصل إلى الحقيقة.
لم أحاول أن أنقل تلك المقولات المنقولة عن أصحاب تلك المذكرات والتي تهاجمه بقسوة، برغم إتاحتها وتوافرها لأنني لا أريد أن تكون بصيرتي مع أو ضد بدون دليل، ولأنه رئيس مصري كانت له كاريزما جبارة، ونقل صورة مصر بشموخها وكبريائها أمام دول العالم.
فالعالم لن يرى مرة أخرى جنازة بهذا الحشد من ملايين البشر تودع شخص بتلك الكيفية وهذا العويل والأسى على رحيله.. رحل ناصر وله ما له وعليه ما عليه.. رحم الله ناصر وغفر له كل خطاياه.