نظام اقتصادي ثالث
يعيش العالم بين نظامين اقتصاديين لكل منهما قواعده الخاصة، وهما الرأسمالي والاشتراكي، ولكن هذه الأنظمة ليست مقدسة بل هي نتاج بشري؛ ولذلك نجد في كل منها مميزات وعيوبًا أيضًا، ولا يمكن الحكم بأيهما أكثر عيبًا، ولكن الأمر يعود لطبيعة البلد التي يطبق فيها النظام الاقتصادي ومدى الالتزام به.
ونبدأ بالنظام الاشتراكي الذي طبقته مصر لسنوات مع إنهاء العصر الملكي وإعلانها جمهورية.. ورغم المميزات الكثيرة التي لمسها الناس في هذا النظام آن ذاك، وتغييره لحياة كثيرين بسبب تركيز الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على فكرة العدالة الاجتماعية وإنهاء كل أشكال النفوذ المالي، والاحتكار والاستحواذ على الثروة، وجعلها في يد مجموعة معينة مكونة من عدة عائلات، بينما يعمل الجميع لخدمتهم.
ولكنه أيضا ليس نظاما مثاليا بالدرجة الكافية؛ لأننا نجد طبقا لقواعده الأساسية أنه قد يجعل الإنسان آلة عاملة لحساب الدولة التي تمتلك كل شيء وحدها، ولا يحق له امتلاك أي مشروع منتج.. وذلك من أخطر عيوبه، التي تتمثل في غياب روح المنافسة، وبالتالي لا يوجد إبداع، بل جمود تام وهو نظام لم يستطع الصمود لكثرة هذه العيوب وحتى الدول التي ما زالت متمسكة به أدخلت عليه تعديلات كثيرة.
أما الرأسمالية التي اجتاحت العالم مع بداية عصر الهيمنة الأمريكية أو اقتصاد السوق.. الذي يفترض أننا نعمل به في مصر منذ سبعينيات القرن الماضي وتحديدا أثناء فترة حكم الرئيس السادات وحتى الآن، فهو نظام يعطي المجتهد حقه، ويسمح له بالانطلاق والثراء على قدر جهوده، وتوجد فيه منافسة حقيقية قائمة على التطوير الدائم والتحسين من جودة المنتجات وتنوعها لضمان الاستمرار، ويتعاقد فيه العامل بشكل يحفظ حقوقه كاملة.
لكن للأسف لم يطبق بشكل صحيح منذ البداية هو الآخر عندما أعلن السادات ما سمي بعصر الانفتاح، والذي تمت مهاجمته وقتها ولعل ذلك ترجمه بشكل صريح مقال "الانفتاح ليس سداح مداح" للكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين، الذي كان يشغل منصب رئيس تحرير الأهرام، وقد تم نشره في الصفحة الأولى بالجريدة، 12 يوليو 1974، وبكل أسف بالفعل تحول الأمر إلى احتكار للثروات من قبل أفراد وطبقات معينة، بينما تعاني الأغلبية التي تعمل بلا حقوق تقريبا، وأغلبهم لا يتمتع بنظام التأمينات الاجتماعية، وحتى لا يتم إبرام عقد يحميه في مواجهة صاحب العمل.
ومن أخطر عيوب النظام الاقتصادي الرأسمالي حرية السوق، وترك سعر المنتج للعرض والطلب، وذلك يفتح المجال للمستغلين، ولو أنه طبق كما هو بكل ضماناته وشروطه، وقبل كل ذلك تحلى صاحب العمل بالأخلاق الحسنة، ولم يتحول إلى محتكر جشع هدفه زيادة ثروته بأي شكل، لما وجدنا ذلك.. للأسف حاجة الناس للعمل تجعلهم يقبلون بأي وضع حتى تخيل أغلبهم أن هذا هو العادي، لدرجة أن الحد الأدنى للأجور غير مطبق في القطاع الخاص، ولا أحد يمكنه الاعتراض وإلا فقد عمله ليجد نفسه في الشارع بلا أي حقوق.
الحقيقة أننا الآن وفي ظل الارتفاع الجنوني لأسعار السلع كافة وعلى رأسها الغذائية، التي تتعلق بحياة الناس بشكل مباشر ولا يمكن الاستغناء عنها نهائيا، نحتاج بالفعل إلى المزج بين النظامين للسيطرة على الأمر، ولا يمكن ترك السوق للعرض والطلب في هكذا ظروف، ولا بد من تدخل الدولة لضبط الأسعار بفرض تسعيرة جبرية وليست استرشادية، وتشديد الرقابة وإنزال عقوبات رادعة جدا على المخالفين، وليس مجرد تحرير محضر ينتهي إلى لا شيء دائما، ورغم أن ذلك يخالف النظام الاقتصادي الرأسمالي المتبع حاليا، ولكنها ظروف استثائية تحتاج إلى إجراءات غير عادية أيضا.
ما هي المشكلة في أن نصنع نظامنا اقتصاديا ثالثا خاصا بنا طبقا لحاجتنا وما تقتضيه الضرورة، على أن يكون لديه قدرة التعامل مع الأنظمة العالمية أيضا، وذلك ليس أمرا صعبا، خاصة في ظل قوة الدولة الحالية والتي نتمنى دوامها لأنها الضمانة الحقيقية لتنفيذ كل شيء.. بل إنه بدونها تعم الفوضى كبديل.
وللأسف أغلب الناس لا يعرفون أن الأسعار الآن طبقا للقانون والنظام الاقتصادي المتبع غير خاضعة لتدخل الدولة؛ ولذلك يحدث الهجوم الدائم عليها وتحميلها المسئولية كاملة، ولا يتحدث الإعلام في هذه الأمور لتوضيحها للناس بشكل يجعلهم يعرفون أن الأزمة بالفعل تتوزع مسئوليتها على كافة الأطراف، ولكن لأن الدولة هي المظلة الحاكمة يرى الجميع أن عليها التدخل، وذلك ما أقوله خلال مقالي أيضا ولكن بطريقة منضبطة مقننة ومدروسة ودائمة تحفظ حقوق جميع الأطراف.