أسبوع اقتصادي عاصف
”لا يصحو من مصيبة إلا والأخرى متشبثة بها”.. قالها أبو الطيب المتنبي منذ قرون، وتبعه شكسبير بأن المصائب لا تأتي فرادى، وهكذا هو حالنا الآن، فالأسبوع الماضي وحده قد شهد العديد من الوقائع التي وصفت ما تمر به الدولة من الناحية الاقتصادية، وحملت جميعها إشارات سلبية للغاية عن الوضع.
البداية كانت من بنك مورجان ستانلي، الذي خفّض النظرة الائتمانية لمصر، مشيرًا إلى العديد من عوامل الخطر بما في ذلك الانتخابات الرئاسية المرتقبة، وإمكانية خفض وكالة موديز للتصنيف والتعقيدات المتعلقة ببرنامج صندوق النقد الدولي
قرار المؤسسة المالية يأتي وسط مخاوف متزايدة بشأن احتياجات مصر التمويلية، والتي تقدر بنحو 24 مليار دولار حتى يونيو 2024، مؤكدا أن الدولة المصرية في حاجة إلى دعم قوي خاصة من دول الخليج لمجابهة التحديات الحالية.
تبع ذلك رفع البنك المركزي المصري تقديراته لقيمة الأقساط والفوائد المستحق سدادها خلال 2024، بقيمة 1.18 مليار دولار، لتصل إلى 29.229 مليار، مقابل نحو 28.049 مليار كان البنك قدرها في يونيو الماضي.
ووفقًا لتقرير الوضع الخارجي للاقتصاد المصري الصادر عن البنك، فإن قيمة الفوائد والأقساط المستحق سدادها عام 2024 تتضمن سداد فوائد بقيمة 6.312 مليار دولار، وأقساط ديون بقيمة 22.917 مليار دولار.
وفق للتقرير ذاته، فإنه يتطلب سداد نحو 14.595 مليار دولار خلال النصف الأول من عام 2024، على أن يتم سداد نحو 14.634 مليار دولار خلال النصف الثاني من العام ذاته.
البيانات تشير إلى أنه قد ارتفع الدين الخارجي إلى 165.361 مليار دولار بنهاية الربع الأول من العام الحالي، بزيادة قدرها 1.5% أو ما يعادل 2.43 مليار، مقارنةً بالربع الأخير من عام 2022 عندما سجل 162.928 مليار.
وتشير التوقعات إلى زيادة مدفوعات 2024 بنحو 10 مليارات دولار عن فاتورة خدمة الديون المتوقعة لعام 2023، والتي يقدرها البنك المركزي حاليا عند 19.3 مليار دولار، حيث تعادل مدفوعات 2024 حوالي 20% من اجمالي الديون الخارجية للبلاد.
لم تتوقف الأحداث عند هذا الحد، فقد توقع البنك الدولي نمو الاقتصاد المصري 4.2% بنهاية العام الجاري وبنسبة 3.7% في السنة المالية 2024، ويعتبر ذلك ثاني تقليص لتوقعات العام القادم، حيث توقعت المؤسسة في يناير نمو بنسبة 4.5% في العام الحالي و4.8٪ في العام القادم، ثم خفضت كليهما إلى 4% في شهر يونيو.
ما يزيد الطين بلة، هو أن خفض توقعات النمو يأتي في ظل موجة تضخمية هي الأعنف في تاريخ مصر الحديث مما يخلق الحالة المعروفة بالركود التضخمي، والذي يتم تشخيصه بكونه دورة اقتصادية تتميز بالنمو البطيء وارتفاع معدل البطالة والتضخم، وصعوبته البالغة تكمن في التعامل مع هذه التركيبة، لأن محاولة تصحيح أحد العوامل يؤدي إلى تفاقم عامل آخر.
ويزداد الموقف صعوبة في ظل إشكالية الدولة في إتمام الاتفاق مع صندوق النقد، لتطل علينا المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا بتصريحات تحذيرية مفادها أن مصر سوف تستنزف احتياطياتها الثمينة ما لم تخفض قيمة عملتها مرة أخرى، وأن الدولة تؤخر ما لا مفر منه بالامتناع عن هذه الخطوة، وكلما طال الانتظار زاد الأمر سوءًا.
وأخيرا، جاء إعلان وكالة موديز للتصنيفات الائتمانية، تخفيض التصنيف الائتماني لمصر من B3 إلى Caa1، مع نظرة مستقبلية مستقرة، ويعني هذا التصنيف أن الالتزامات والديون ذات وضع ضعيف وتخضع لمخاطر ائتمانية عالية جدًا.
وهذا المستوى لم نصل إليه سوى مرتين في تاريخ تصنيف مصر السيادي مع الوكالة، حيث جاءت المرة الأولى في مايو 2013، وحلت الثانية الآن، فمصر قد حافظت على أعلى تصنيف لها من 1997 إلى 2011 ثم بدأت رحلة من التدهور بين 2011 و2013 ثم استعادت نسبيا المستوى، لتبدأ رحلة هبوط متسارعة أخرى في مايو 2022.
قرار الوكالة يرجع تدهور قدرة البلاد على تحمل الديون، مع استمرار نقص النقد الأجنبي في مواجهة زيادة مدفوعات خدمة الدين العام الخارجي خلال العامين المقبلين، خاصة في غياب تدابير لتعزيز احتياطي النقد الأجنبي.
الأكثر حدة من ذلك هي التوقعات خلال الفترة المقبلة خاصة مع قرب مراجعة تصنيف مؤسسة فيتش والذي يبدو أنه سوف يكمل هذه السلسلة من الإشارات السلبية بشأن وضع الاقتصاد المصري.
كم كنت أتمنى أن نفوت هذه اللحظة القاتمة، وقد أطلقت وغيري الكثير العديد من التحذيرات بأن المسار الاقتصادي المتبع نهايته كارثية بشكل حتمي، وقولا واحدا وبدون حاجة للمكابرة، فلو استمرت سياسة التوسع المالي الحالية التي تنتهجها الدولة المصرية، سيكون عام 2024 هو الأسوأ، ولا بديل لتخفيف حدة الموقف سوى التخلي عن سياسات الإنفاق التوسعي الذي لا يأتي بأي عائد سوى تعظيم الدين الخارجي وتعظيم الضغوط على الجميع.
أعلم أن الوضع قد يبدو قاتما وقد يركن الكثيرون لنظريات المؤامرة محاولين التخلص من المسئولية تجاه الأحداث، لكن كل ذلك لن يفيد في شيء، والأجدى من ذلك هو العمل على وقف النزيف فالفرصة لا تزال سانحة لكنها تضيق يوما بعد يوم.