هل بدأ العد التنازلي لإسرائيل
لست من الأشخاص الذين يميلون إلى التفكير بخيالية مفرطة وغير منضبطة قد تسوق إلى الوهم، وإنما أفضل التوازن والعقلانية دائما في الأمور الهامة والمصيرية، ولأن خيبة الأمل أمر مؤلم، أرى أن سوء الظن في بعض الأحيان من حسن الفطن حتى يثبت العكس.
ولكنا هنا نستند إلى وقائع ثابتة عندما نحاول النظر إلى مستقبل إسرائيل وتقدير الموقف بشكل عام، وهل هي بالفعل دولة مؤهلة للبقاء، أم أنها عبارة عن نبت شيطاني غير راسخ يمكن اقتلاعه إذا اشتدت الريح كونه بلا جذور من الأساس.
والحقيقة أننا منذ السابع من أكتوبر الماضي نرى هشاشة لم نكن نتخيلها بهذا الكيان، وأن سر وجوده يكمن في هؤلاء الذين زرعوه بمنطقتنا منذ 75 عاما، بالإضافة إلى ما نحن عليه كأمة عربية وإسلامية من هوان، وعدم توحد وإخلاص فيما بيننا بكل أسف.. وليس ضعفا كما يتخيل البعض فلدينا الكثير من عناصر القوة المهدرة.
نعم استطاعت إسرائيل هدم قطاع غزة بشكل شبه كامل وإحداث دمار غير مسبوق بإلقاء آلاف الأطنان من المتفجرات على شعب أعزل، وارتكاب جرائم حرب هي الأبشع في التاريخ المعاصر، بقتل وإصابة عشرات الآلاف من المدنيين أغلبهم نساء وأطفال، وتجويع من هم على قيد الحياة بمنع إدخال المساعدات الإنسانية لهم بما فيها المستلزمات الطبية والأدوية، وسط عجز كامل ومخزي من الجميع بلا استثناء، وعدم التأثير على هذا الكيان الإجرامي.
حالة انبطاح لم نرها أو نسمع عنها طوال تاريخ هذا الصراع منذ بدايته عام 1948 حيث تم الإعلان عن إنشاء ما سمي دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية.
ولكن ومع كل ما حدث وبالإضافة إلى عمليات القتل والاعتقال بالضفة الغربية أيضا، في مواجهة الشباب الذي لم يستطع الوقوف صامتا أمام كل هذا الإجرام رغم انعدام الإمكانيات.
وفي ظل هذا كله هل يستطيع أحد القول بأن إسرائيل حققت نصرا عسكريا يذكر على المقاومة الفلسطينية في غزة، مع حشد جميع ما تملكه من قوة، ودعم أمريكي وأوروبي وغطاء سياسي يمنحها الضوء الأخضر لفعل كل شيء دون خشية من محاسبة أو حتى لوم؟
بالطبع وبكل وضوح لم ولن يحدث ذلك النصر لأن إسرائيل ذهبت إلى غزة بأهداف محددة والنصر يعني تحقيقها بشكل كامل، وإن لم يحدث فقد تمت هزيمتها مهما مارست من قتل للمدنيين وتدمير للمباني.
وهذه الأهداف هي تحرير الأسرى الذين تم احتجازهم يوم 7 أكتوبر في قطاع غزة لدى المقاومة الفلسطينية، والقضاء بشكل كامل عسكريا وسياسيا على حركة حماس.
وذلك كما يرى العالم بعد أكثر من ثلاثة أشهر يعد من أحلام اليقظة على حد قول رئيس الموساد الإسرائيلي الأسبق، ومن هنا ندخل إلى تداعيات هذه الحرب داخل دولة الاحتلال وحالة الانقسام التي لم تحدث من قبل بهذا الشكل خاصة في وقت الحرب، ولكن ساعد في هذا هول الصدمة، واكتشاف أن الأمور ليست مطمئنة على الإطلاق، وذلك بالإضافة إلى حالة الصراع بين الساسة في هذا الكيان حول الحكم، ورأينا فضائحهم على شاشاتهم، وكيف أنهم يوجهون اتهامات تصل إلى حد التخوين لبعضهم البعض، حتى وصل الأمر إلى أن رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو أشار إلى إمكانية إخضاع وزراء الحكومة لجهاز كشف الكذب لمعرفة من يقف خلف التسريبات لما يحدث في اجتماعاتهم.
ومؤخرا خرج زعيم المعارضة الإسرائيلية "يائير لابيد" يقول نصا إن الحكومة الحالية ليست مؤهلة لقيادة الحرب ورئيسها بنيامين نتنياهو غير مؤهل لقيادة الدولة.
ذلك بالإضافة إلى التداعيات الاقتصادية التي وصلت إلى حد من التدهور غير مسبوق وقد يظهر تأثيرها البالغ مستقبلا.. وحتى الولايات المتحدة الأمريكية الداعم الأول والأساسي والأبدي لدولة الاحتلال، لم تعد تستطع تحمل فاتورة هذه الحرب التي بدأها نتنياهو ولا يرغب في إنهائها، لأنها ستكون نهاية حكمة بل ربما يتم سجنه بسبب تهم الفساد التي تنتظره وسيحاكم بها.
رأينا تغيرا ملحوظا وإن كان غير كاف للموقف الأمريكي وهو ليس نابعا من قناعة، وإنما لأنها ربما أدركت أن إسرائيل وضعتها في أسوأ حال يمكن أن تصل إليه من حيث نظرة العالم لها كداعم لقتل المدنيين بهذه البشاعة، وأيضا للتكلفة المادية العالية وتدني شعبية بايدن على عكس ما كان يتوقع، وساعد في ذلك كشف الوجه القبيح له بدعم الإبادة الجماعية لشعب فلسطين في غزة رغم محاولة الإعلام الأمريكي عدم إبراز ذلك، ولكن استطاعت مواقع التواصل الاجتماعي كشفه وفضح الكيان وداعميه رغم الحجب والمحاصرة.
ولا ننسى أن نذكر هنا بكل اعتزاز الموقف المشرف لدولة جنوب إفريقيا التي قامت برفع دعوى قضائية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، تتهمها فيها بارتكاب الإبادة الجماعية في غزة، وتلك خطوة لها رمزيتها المهمة جدا وتكشف للعالم مدى قبح ذلك الكيان وداعميه، وتؤكد على عدالة القضية الفلسطينية التي كادت أن تنتهي وينساها الجميع.
كل ذلك وغيره يجعلنا نستطيع القول أن العد التنازلي لهذا الكيان الصهيوني قد بدأ.. ولكن حتى نكون منطقيين لن يكون هذا في القريب العاجل ولا نقول زوالا كاملا أيضا وإن كان واردا على المدى البعيد.. ويجب في نفس الوقت إدراك أنها فرصة سانحة ربما تضيع لو لم يتم استغلالها عربيا وإسلاميا والبناء عليها، ودراسة المشهد بشكل دقيق، وقبل كل هذا يجب أن تكون هناك إرادة موحدة بالعمل على كافة الأصعدة لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشريف، وإلى أن يحدث يجب أن يعي كل عاقل أهمية فكرة دعم المقاومة بأي شكل، وليس إضعافها، فهي حائط الصد في وجه طموح العدو التوسعي، والذي لا يخفى على أحد، ولو أن فلسطين كانت لقمة سائغة له لما كان وقف عند حدودها.