محكمة العدل.. فرصة أخيرة لضمير العالم
لا يخفى علي أحد فجاجة ما ترتكبه إسرائيل من جرائم مستدامة في حق الشعب الفلسطيني علي مدار أكثر من 7 عقود، لاسيما ما شهدناه ونشهده من أعمال همجية منقطعة النظير لدولة الاحتلال أثناء عدوانها الآثم على قطاع غزة الذي دخل شهره الرابع.. أكثر من 100 يوم من المذابح اليومية أدت إلى دمار القطاع ونزوح 90 % من سكانه، وسقوط نحو 100 ألف إنسان ما بين شهيد وجريح ومفقود الغالبية العظمى منهم من المدنيين. ولم تفلح الآليات الدولية في توفير الحد الأدنى من الإنصاف لضحايا العدوان، فالجمعية العامة للأمم المتحدة وقراراتها التي طالبت بوقف إطلاق النار لها طابع قانوني غير إلزامي، والمحكمة الجنائية الدولية التي تتمتع بولاية قضائية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة متخاذلة في مدى استجابتها للمطالب المشروعة المنادية بمحاسبة قيادات دولة الاحتلال لشناعة ما يرتكبونه من انتهاكات، ومجلس الأمن فشل في إصدار أي قرار يفرض وقف لإطلاق النار أو هدنة إنسانية دائمة بفضل الفيتو الأمريكي، وآليات حقوق الإنسان الأممية تقف عاجزة عن التحرك لافتقارها لأي أدوات قانونية أو تنفيذية لوقف سيل التجاوزات الإسرائيلية، ولا تملك سوي التنديد والاستنكار الخالي من أي تأثير فعلي على دولة احتلال استيطانية معدومة الضمير والأخلاق.
وبالتالي لم يعد هناك سبيل سوى محكمة العدل الدولية، محكمة العالم، محكمة الأمم، محكمة تعد أحد الأجهزة الرئيسية الست لهيئة الأمم المتحدة، وهي معنية بالفصل في النزاعات بين الدول فيما هو ذات الصلة بمخالفة القانون الدولي العام الذي يستمد نصوصه من الاتفاقيات الدولية والعرف.
جمهورية جنوب إفريقيا، تلك القوة الصاعدة التي انتصرت على نظام الفصل العنصري الذي تركه لها الاستعمار وتطهرت من إرثه العفن، اتخذت خطوة تاريخية في إطار حرصها على عالمية حقوق الإنسان والقيم الحاكمة لها، وذلك استنادا لما عانت منه هي في الماضي القريب، اتخذت الخطوة الجريئة التي قد تكلفها الكثير واختصمت إسرائيل أمام المحكمة علي خلفية انتهاكاها لنصوص اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، أثناء حربها في غزة، وتطالب الدعوة الجنوب إفريقية المحكمة باتخاذ قرار بفرض تدابير الحماية المؤقتة للشعب الفلسطيني نظرًا لتعرضه لخطر الإبادة الفعلية بحكم المسار الذي تسلكه الحرب، وتهدف الدعوة في نهاية المطاف لإدانة إسرائيل بانتهاك نصوص هذه الاتفاقية الدولية الشارعة.
تؤيد جنوب إفريقيا في مساعيها ما يزيد عن 70 دولة من بينهم الـ57 دولة الأعضاء بمنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية، فضلا عن دول كالبرازيل وكولومبيا وكوبا وناميبيا، بينما يساند إسرائيل بطبيعة الحال قوي غربية كبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وكندا ليكون موقفهم المعيب وسام ضمن كم هائل من أوسمة العار التي كللت صدورهم الأثمة علي مدار فترة هذا العدوان الغاشم.
قرار المحكمة بفرض تدابير مؤقتة في حال صدوره سيكون له صفة إلزامية وفقا لنصوص القانون الدولي، وفي هذه الحالة سيكون قرارًا ملزمًا لإسرائيل بوقف الحرب لحماية الفلسطينيين من خطر الإبادة الجماعية، ولكن في الوقت ذاته لا سبيل لفرض هذا القرار وتنفيذه إلا بقرار من مجلس الأمن، وبالطبع قراري الفيتو الأمريكي والبريطاني أحدهما يكفي لتعطيل أي سبل لفرضه، ولن نكون مخطئين إذا اعتبرنا هذه المسألة كأمر مسلم به.
ولكن إدانة إسرائيل ولو بقرار تدابير مؤقتة سيصبح دليلا دامغا يقنن وضعية إسرائيل كدولة مارقة ترتكب انتهاكات فجة وممنهجة للقانون الدولي الإنساني وشرعية حقوق الإنسان الدولية، وقد يؤسس لمحاسبتها يومًا ما، هذا إذا افترضنا أن النظام الدولي سيمتثل للقوانين الذي وضعها لنفسه في المستقبل. ومع ذلك يظل إدانة إسرائيل على هذا المستوى نصر معنوي وأخلاقي للقضية الفلسطينية لن تتبدد آثاره في عالم ينتقل من نظام القطب الأوحد للتعددية القطبية، والأقطاب الصاعدة والعائدة سواء في بيكين أو موسكو مواقفهم من القضية الفلسطينية مغايرة تماما لمواقف القطب الأمريكي الوضيعة.
في حال لم تحكم المحكمة لصالح دعوى جنوب إفريقيا وهذا وارد نظرًا لما تمارسه الولايات المتحدة من ضغوط شديدة الوطأة، ومن خلفها آخرون من أعضاء حاشيتها الغربية، سيكون هذا السقوط الأعظم للمنظومة الدولية التي من المفترض أنها مقيدة بمبادئ إنسانية وأخلاقية لا تتوانى تل أبيب في النيل منها كلما سنحت لها الفرصة منذ نشأتها في 1948. حينها لا يحدثنا أحد عن قانون دولي أو قيم إنسانية جامعة، حينها سيترسخ قانون الغاب كإطار حاكم لنظام دولي مهترئ مبني في مضمونه على أسس استغلالية إرثها الاستعمار وشرعها الاستغلال والابادة إذا تطلب الأمر.
ولكن ستظل إسرائيل سواء صدر القرار لصالح الفلسطينيين ام لم يصدر، دولة مارقة مجرمة وضيعة في قلوب وضمائر مليارات البشر شرقًا وغربًا، وهنا يبرز السؤال كيف لهذا الكيان الغاشم أن يبقي على أسس مستمدة من القوة والهيمنة فقط دون غيرها، والتاريخ قد علمنا أن كل ما هو مبني على القوة والعنف لا يدوم مهما طالت مدته، ولينظروا إلى ما آلت إليه روما وفارس ودولة بني عثمان والمغول والممالك الصليبية والرايخ الثالث والقائمة تطول.