في حب آل البيت - السيدة نفيسة
كلما ذهبت إلى المشهد النفيسي، ووقفت على باب نفيسة العلم والمعرفة، أردد اللهم زد هذا المكان شرفا وتعظيما، وهب لنا بزيارته مغفرة وأجرا عظيما، فمن سعدنا في مصرنا الحبيبة أن طيب الله ثراها بكثير من آل البيت المطهر، ومن الصحابة والتابعين وأئمة العلم والدين.
فالسيدة نفيسة ابنه الإمام الحسن الأنور بن الإمام زيد الأبلج ابن الإمام الحسن بن على ابن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
وكان والدها يحبها حبا شديدا، وقد أتمت حفظ كتاب الله وهي دون الثامنة، ونشأت على الطاعة والعبادة وقراءة القرآن الكريم، وتفقهت في الدين وأخذت العلم والفقه والحديث عن علماء وشيوخ المسجد النبوي، وكان والدها يأخذ بيديها إلى قبر النبي صلى الله علية وسلم ويقول: (يا سيدي أنا راض عن ابنتك نفيسة فارضى عنها).
فرأى والدها الإمام الحسن، النبي عليه الصلاة والسلام في المنام وهو يقول له: (يا حسن أنا راض عن ابنتك نفيسة، والحق سبحانه وتعالى راض عنها برضاي)، وهكذا فعل أبوه معه مثلما فعل مع ابنته السيدة نفيسة.
وقد لازمتها وخدمتها زينب ابنه أخيها يحي المتوج أربعين سنة وكانت تقول عنها: (وإن عمتها كانت تحفظ القران الكريم وتفسيره، وكانت صوامة قوامة تقيم الليل وتصوم النهار، وحجت الى بيت الله ثلاثين حجة، وكانت لا تفارق حرم الرسول صلى الله عليه وسلم).
وعندما سألوها عن قوتها قالت: (كانت تأكل كل ثلاثة أيام أكلة، وكان لها سلة معلقة أمام مصلاها، فكانت كلما اشتهيت شيئا وجدتها في السلة)، وعندما كنت اتعجب تقول لي: ( يا زينب من استقام مع الله تعالى، كان الكون بيده، وفي طاعته)، وكانت لا تأكل بغير زوجها شيئا.
ورحلت السيدة نفيسة مع زوجها أبو إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق إلى مصر، ومكثت بها سبع سنوات حتى قبضت إلى بارئها، وقد قابلها المصريين فور علمهم بقدومها إلى مصر من العريش فرحين مبتهجين بقدومها، فقد سبقتها شهرتها وكرامتها إلى مصر.
وقد جهز لها رجلا معروف بالبر والطاعة والعبادة وعمل الخير منزلا يليق بها، لذلك كان المصريين يأتون اليها من كل ربوعها، يلتمسون منها البركة والدعاء، حتى تكاثر الناس وتزاحموا على بابها، فطلبت العودة إلى بلاد الحجاز فاجتمع المصريين وذهبوا إلى الوالي يخبروه بعزمها الرحيل، فكتب إليها ولكنها أبت، فذهب إليها لينشدها البقاء في مصر، ولكن نفيسة العلم اشتكت من كثرة ازدحام الناس على بابها، وأنهم شغلوها عن أورادها وعبادتها وتسبيحها، وإن المكان أصبح ضيق عليها لا يتسع كل تلك الجموع المتوافدة اليها.
فتعهد لها والي مصر بتحقيق كل طلباتها، وأعطاه دار واسعة يمتلكها بدرب السباع، واتفق معها على أن يكون للناس يومين من الأسبوع وكانا السبت والأربعاء وباقي الأسبوع لن يشغلها أحد عن الأذكار والعبادة، ثم رأت السيدة نفيسة النبي صلى الله عليه وسلم بالمنام وهو يقول لها: (لا ترحلي عن مصر فإن الله متوفيك بها).
لما أحست بدنو الأجل كتبت إلى زوجها أبو إسحاق تخبره وحفرت قبرها بيديها، وأكثرت من الصلاة والتسبيح داخل القبر، وختمت فيه القرآن مائة وتسعين ختمة، وقد زاد عليها المرض وطلب منها الأطباء ان تفطر حتى تقوى على مواجهة مرضها، ولكنها أبت وقالت لهم: (واعجباه، لي ثلاثون سنة، اسأل الله عز وجل أن يتوفاني وأنا صائمة فأفطر معاذا الله).
واستمر مرضها حتى كانت لحظة لقاء الله سبحانه وتعالى وهى تقرأ في سورة الأنعام حتى وصلت قول الله تعالى ﴿ ۞ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ ۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، أغشى عليها وضمتها زينب ابنة أخيها الى صدرها ونطقت الشهادتين، وصعدت روحها إلى بارئها.
وجاء زوجها وأراد أن يأخذها ليدفنها بالبقيع، فاجتمع أهل مصر واستنجدوا بوالي مصر (عبيد الله بن السري) ليثنوا زوجها عن موقفه في نقل جسدها الشريف إلى المدنية، فأبى وجمعوا له مالا وفيرا حتى وسق بعيره، وسألوه مرة أخرى أن يدفنها عندهم فأبى، وقد باتوا في غم وألم شديد لرفض زوجها دفنها بقبرها، وفي الصباح وافق أبو إسحاق على طلبهم فتعجبوا وعندما سألوه قال لهم: رأيت الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: (رد عليهم أموالهم وادفنها عندهم)، ودفنت في قبرها التي حفرته بيديها رضي الله عنها.
كانت جنازتها مشهودة تهافت الناس من كل مكان ليصلوا عليها حتى بعد دفنها، وحتى تلك اللحظة مازالت الوفود تتوالى على مسجدها ويتبركوا بزياره قبرها.
وقابلت السيدة نفيسة كثير من أئمة عصرها، فقرأت على الإمام مالك الموطأ، كما قابلت الإمام احمد بن حنبل وبشر بن الحارث ودعت لهما كما طلبا منها، واثنت على علمهم وواسع تفقهم في الدين وطلبت منهما أن يدعوان لها.
كما عاصرت الإمام الشافعي عندما ارتحل إلى مصر، وقد اعتاد أن يزورها وهو في طريقه إلى حلقات درسه في مسجد الفسطاط، وفي طريق عودته إلى داره، كان يصلي بها التراويح في مسجدها في رمضان، وكلما ذهب إليها سألها الدعاء، وكان يرسل إليها ويقول: (ان ابن عمك الشافعي مريض ويسألك الدعاء) فتدعو له ويتمم الله عليه الشفاء بأمر الله قبل عودة رسوله إليه، فلما مرض مرض موته أرسل رسوله كعادته إليها فقالت لرسوله: (متعه الله بالنظر إلى وجهه الكريم) فلما عاد الرسول سأله الإمام الشافعي رضى الله عنه ماذا قالت في دعائها فأجابه بما قالت، ففهم أنها نعته وأنه سيلقى الله في مرضه هذا فأوصى أن تصلي عليه، وهذا ما حدث ذهبوا بجنازته إليها فصلت عليه وقالت: كان رحمه الله يحسن الوضوء.
ويعتبر مسجد السيدة نفيسة من أعرق مساجد مصر، وهو وأول محطة من محطات أل البيت الشريف، وعلى مر التاريخ لم تتوقف عمارة المساجد وصيانتها وترميمها فنحن لسنا بلد الألف مئذنة بلا الآلاف وافتتح الرئيس السيسي في أغسطس العام من الماضى آخر أعمال التطوير والعناية بمسجد السيدة نفيسة رضى الله عنها.