الجريمة بين الطبع والتطبع
كل الذين تخرجوا من كلية الحقوق درسوا مادة تسمى علم الإجرام، وهي تبحث في فكرة الشخصية الإجرامية، وهل هي تنشأ من التأثر بالبيئة المحيطة وعوامل متعددة أخرى أم أنها توجد داخل التكوين النفسي والعضوي للشخص وتنتقل بالوراثة.
وهناك أكثر من نظرية تبرهن كل واحدة منها على شيء ما، وقبل التفصيل في ذلك، وحتى تكون الفكرة واضحة يجب أن نعرف ما هي الجريمة، وهل تنحصر في الأفعال المتعارف عليها مثل القتل والسرقة وغير ذلك أم ماذا؟
وربما يفاجأ القارئ الآن بأن مفهوم الجريمة أوسع من هذا بكثير، فهو يشمل أبشع الأفعال وأكثرها سوءًا، وأيضًا أقلها ضررًا من وجهة نظر البعض، ويقصد بذلك كل مخالفة ولو بسيطة ما دامت هناك قوانين أو لوائح تمنع فعلها أو حتى أعراف وقيم ومبادئ.
وعلى سبيل المثال كسر إشارة المرور أو السير عكس الاتجاه، أو حتى التحايل لعدم إنجاز عمل يجب فعله بمقتضى وظيفة الشخص، وما بين هذا وذاك تعد جرائم.
وقد وصل الأمر إلى أن كل فعل يحمل مخالفة أخلاقية ولو بسيطة يعد من الأعمال الإجرامية حتى وإن لم يكن يعاقب عليه القانون.
وبالعودة لعلم الإجرام نذكر نظرية لومبروزو التي تناولت الأمر من منظور يتعلق بالخلل العضوي الوراثي، وشكل الإنسان نفسه من حيث الملامح والبنيان الجسماني، ودلل على هذا بذكر عائلات لها سجل إجرامي متسلسل توارثته الأجيال، فنجد أن هناك الكثير من الشخصيات الإجرامية ظهر ذلك في نسلهم على مدار أجيال متعاقبة عن طريق الأحفاد وأحفادهم.
في المقابل هناك نظرية فرويد التي تتناول الموضوع من منظور نفسي وليس عضويا، وتقوم على أن النفس ذات الشهوة يمكن أن تحاول إشباع رغباتها دون مراعاة للقيود الاجتماعية التي تفرضها المبادئ والقيم في المجتمع.
وأيضًا نجد أن البيئة وتأثر الإنسان بها تساعد على صناعة شخصيته الإجرامية، وبشكل خاص تدهور الأوضاع الاقتصادية، وغلاء المعيشة، وتكون السرقة، والرشوة والفساد الإداري والغش التجاري من أبرز الجرائم في هذا المناخ.
ونجد بعض النظريات تذهب إلى موضوع العقد النفسية ومنها عقدة أوديب التي يبني صاحبها فكرته على أن تلك الحالة العدوانية التي قد تجعل الشخص يميل للإجرام تنشأ من مشاهدة العلاقة الحميمية بين أمه وأبيه، ولأنه يكون شديد التعلق بأمه، ولعدم إدراكه بما يحدث فإن ذلك يولد بداخله شخصية قد تتحول بعد ذلك إلى إجرامية عدائية.
والعقدة الثانية والأكثر غرابة مما سبق، هي الذنب وتحدث كما يقول من توصل إليها أن بعض الناس عندما يرتكبون جريمة ما، ويفلتون من العقاب يتولد بداخلهم عقدة تشعرهم دائمًا بذنب لا يستطيعون تحمله، فيذهبون إلى ارتكاب جرائم أخرى حتى يتم معاقبتهم وهكذا يتحولون إلى مجرمين مع الوقت.
الحقيقة أن كل هذه النظريات، وغيرها مؤكد لها أساس من الصحة وجميعها يحمل وجهة نظر منطقية حتى وإن كانت مستغربة.. ولكني عندما تأملت الواقع والمتغيرات التي طرأت على العالم والمجتمعات، ولأن العلم دائمًا يتطور والبحث لا يتوقف، وصلت إلى يقين بأن الإنسان بشكل عام توجد بداخله النزعة الإجرامية، ولكن ذلك الإجرام قد يظهر بقوة في بيئة معينة تغذيه، وفي المقابل يختفي تمامًا في مناخ آخر لا يسمح بوجوده، أو لا يجد الإنسان حاجة له من الأساس، ولكنه يظل موجودًا في شخصيته وقد يظهر بشكل مفاجئ، وهذا ما يفسر ما بدأنا نسمع عنه من نوعيات غير معتادة للمجرمين بخلاف المفهوم الذي كان سائدًا، ونجدهم يرتكبون جرائم غاية في البشاعة وعلى سبيل المثال مقتل أحد الطلاب مؤخرًا على يد مدرسه الشاب الوسيم الذي لا يمكن لأحد تخيل أنه من الممكن أن يفعل ذلك أبدًا، بل الأكثر فجاجة من هذا أن تقتل أم أولادها في حالة تدل على انتكاسة الفطرة.
والدليل على أنه بالفعل يوجد الاستعداد الإجرامي داخل كل نفس بشرية نجد في القرآن الكريم قوله تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها} وذلك يشير إلى أن النفس تحمل بداخلها الفجور الذي هو الإجرام بالطبع كما توجد بها التقوى أيضًا، وكذلك قول الحق سبحانه: {وهديناه النجدين} ويقصد الطريقين، وهما الخير والشر وعلى الإنسان اختيار أي طريق يسلك.
وأخيرًا أود التنويه إلى أهمية التوسع في دراسات جادة تبحث ما طرأ على المجتمع المصري من متغيرات هائلة واضطرابات اقتصادية غير مسبوقة في تاريخنا الحديث قطعا ساهمت في هذا الانتشار الملحوظ للجريمة بأنواعها وبمعدلات أكثر من السابق.. وذلك يساهم في تدارك الأمور مما يصب في صالح المجتمع، ويحافظ على أمنه ومن ثم استقراره الذي يوجه الطاقات نحو الإنتاج والعمل الجاد الذي تنهض بهما الأمم، وأيضا لأن العقوبة هدفها الأول الردع قبل الإيلام لا بد من تشديد العقوبات وعدم التراخي في تطبيقها، حتى يتأكد كل من يفكر في الخروج عن القانون أنه لن يفلت بفعلته أو حتى سيحصل على عقوبة مخففة بإحدى الثغرات القانونية.