اقتصاديات الطاقة 1.. نقص غاز أم أزمة كهرباء؟
لا خلاف أن الأزمة الحالية التي تعانيها الدولة في ملف الكهرباء تحتاج نوعا من التحليل لفهم أسباب وطبيعة الظرف بعيدا عن التبسيط المخل أو المنقوص غير الملم بكافة الأبعاد، خاصة وأن تلك الأزمة التي يمكن تسميتها بمشكلة الطاقة بشكل عام، يبدو أنها سوف تستمر معنا لفترة ليست قصيرة.
ورغم أنني قد تناولت هذه الأزمة سابقا في مقالات عدة، إلا أن تأزم الوضع وكثرة التساؤلات حولها تدفعنا لتكرار الحديث ليكون لدى المتلقي صورة واضحة تعفيه من المماطلات أو حتى وعود الحل غير المجدية.
وبداية.. فإن هذه الأزمة تربط بما يعرف بدورات العجز والفائض، وتتأثر مباشرة بالقدرة على توليد الكهرباء بمعنى إنتاجية محطات التوليد، ثم القدرة على تشغيل هذه المحطات أي توفير الوقود الكافي لهذا الغرض، وهما محوران أساسيان في الأزمة، قد واجهت الدولة المصرية في فترات متعددة حيث واجهت إشكالية فيهما معا وحاليا في إحداهما فقط "الوقود".
فمنذ 2014 حتى 2020، قد شهد ملف توليد الكهرباء استثمارات تبلغ 355 مليار جنيه -حوالي 25 مليار دولار او 17% من قيمة مديونية الدولة- بما رتب إضافة 30 ألف ميجا وات قدرات كهربائية بعد تنفيذ 31 محطة توليد، وهو ما أنتج فائض يصل إلى 13 ألف ميجا وات في يونيو 2020، بعد أن كانت الدولة في 2014 تعاني عجزا يصل إلى 6 آلاف ميجا وات.
ولقد كان هذا الإنجاز أمر مشهود، حتى أنه في تقرير مؤشر الحصول على الطاقة 2020 قد احتلت الدولة المركز الـ 77، متقدمة 68 مركزا عن مستواها في 2015 حيث كانت في المركز الـ145 من أصل 190 دولة، وهو ما يعكس حجم الإنجاز الذي تم في جزئية التوليد، بأن تحول الوضع من عجز إلى وجود فائض يقدر بنصف الإنتاج المطلوب.
الإشكالية أنه خلال عام 2023- بحكم دورات العجز والفائض - واجهت الدولة عجزا في إنتاج الوقود "الغاز"، بما أدى إلى انحصار القدرة على تشغيل المحطات بالشكل الكافي، وهو ما رتب أزمة انقطاع التيار، مع تساؤلات مشروعة عن كيفية حدوث ذلك في دولة لديها تلك القدرة الهائلة على التوليد وأيضا مع الحديث إنجازات في خطط الاستخراج والتحول نحو مركز إقليمي لتداول الطاقة.
وهو ما يرجعنا إلى فكرة حلول دورة العجز في التوليد، مع جوانب فنية جديرة بالاعتبار ويُحال إليها السبب في ذلك بشكل يمكن استيضاحه من مقارنة الوضع الحالي مع تصريح رئيس الحكومة أمام مجلس النواب في 18 يناير 2021 بأن الدولة حققت الاكتفاء الذاتي من الغاز وتخطط للاكتفاء الذاتي من المنتجات البترولية في 2023.
فالأمور للأسف لم تجرِ على هذا النحو، حيث أننا الآن نعاني 30 % عجز في حجم الطلب على الغاز 25% من احتياجات المنتجات البترولية، وهو ما يشير إلى أن خطط الحكومة قد واجهت إشكاليات، ربما بعضها يخرج عن إرادتها لكن الأكيد أن هناك فرصة للاعتبار وتأمل ما حدث مع حقل ظهر تحديدا والذي يتداول حوله 3 سيناريوهات.
ويأتي أولهم كجزء فني يفيد بأنه من الطبيعي أن ينخفض الإنتاج بما أنه مورد طبيعي فلن يمكنه استمرار العمل بقدرته العظمى Peak Capacity لفترة طويلة، أما السيناريو الثاني فقد أثاره الباحث بيتر ستيفنسن في بحث منشور، بأن شركة إيني المطور للحقل، قد عدلت تقديراتها لاحتياطي حقل ظهر لأقل من 10 تريليون متر مكعب من الغاز بعد أن كانت التقديرات تصل إلى 30 تريليون في بداية التشغيل.
أما السيناريو الثالث، وهو محل جدل، يتحدث عنه تقرير ظهر في أبريل 2023 طرحه موقع "مييس" المتخصص بشؤون الطاقة في الشرق الأوسط وأفريقيا، وتضمن أن أحد العوامل الأساسية التي سببت تراجع إنتاجية الحقل بجانب العامل الطبيعي، هي مشكلة تسرب المياه والتي تحدث في حالات الضغط في الاستخراج، وهو ما نفته الحكومة المصرية وشركة إيني - المُشغل - أيضا.
لكن في النهاية، قد تراجع الإنتاج من الحقل الأهم في إنتاج مصر من الغاز أيا كانت الأسباب -سواء العامل الطبيعي أو تغيُّر التقديرات أو سوء إدارة المخزون-، فالمحصلة واحدة بأن الدولة تحولت من التصدير إلى الاستيراد وعدم كفاية الطلب المحلي على الغاز.
ويبلغ إنتاج الدولة المصرية من الغاز من مختلف الكشفيّات حوالي 4.2 مليار متر مكعب، ويتم استيراد حوالي مليار قدم من خطوط شرق المتوسط وغاز الشرق، وبما أن حجم الاحتياج خلال فصل الصيف تحديدا يصل إلى 6.2 مليار قدم مكعب من الغاز، فهناك فجوة تقدر بمليار قدم تقريبا لتلبية كامل احتياجات السوق المحلي.
وهو ما تحاول الحكومة توفيره لرأب العجز، لكن مع ترجيحات بأن إجمالي ما قد تنجح في الحصول عليه لن يتعدى النصف مليار متر مكعب خاصة مع أزمة العملة، وهو ما يعني أن أزمة الانقطاع لن تنتهِ على المدى القريب طالما لم يجد شيء.
أعلم أن البعض يحاول أن يجد مخرجا للحكومة من تحمل مسئولية الأزمة، لكن الشواهد والأرقام تشير إلى أن هذا الوضع لابد وأنه كان متوقع الحدوث أو معلوم لبعض دوائر صنع القرار، خاصة وأنه في مطلع 2023 تأكد أنه لن يكون هناك زيادة في الغاز القادم من الشرق بتعطل مشروع الازدواج وأحداث 7 أكتوبر، وأيضا بتراجع إنتاج حقل ظهر، وكذلك بأزمة العملة التي رتبت عدم التعاقد مبكرا على شحنات بأسعار أرخص مقارنة بتلك التي ما زال يجري التعاقد عليها حتى كتابة هذه السطور.
واقعيا لدينا أزمة غاز وليست أزمة توليد كهرباء - رغم ان ذلك لا يعدو كونه توصيفا فنيا لا يهم المواطن - إلا أن الحل دائما وأبدا يجب أن يرتبط بأصل المشكلة، وواقعيا أيضا لا يبدو الأمر مرشحا لحل قريب ولكن هناك حلول جديرة بالمناقشة ربما يتسع الحديث لها في مرات قادمة.