حربي وغادة.. عندما يهزم الحب الاحتلال
سنوات من النضال والمقاومة، عانى فيها الغزاوي حربي السويركي الأسير المحرر الويلات مع الاحتلال الإسرائيلي، سُجن وقُهر وعُذب بما يكفي، وانتهى به الأمر لأن أفقده الجيش الإسرائيلي قدميه، ورغم العدوان الغاشم والظروف القاسية التي عاشها والأوضاع المأساوية التي كادت أن تفقده أسرته وحياته، إلا أنه كان في كل مرة ينجو، وذلك بفضل مساندة زوجته غادة رمضان له، وحبها غير المحدود له الذي عادة ما يعيده للحياة فوق أي أرض يطأها وتحت أي سماء “بعد كرم ربنا هي ليها الفضل عليا وسند بعد رب العباد، لم تتركني وحدي يومًا، وكانت داعمة في عمليات النصال".
في حي الشجاعية المشهود له بالنضال ضد الاحتلال وفي ظروف غير طبيعية، إبان ما عرف بـ نكسة العرب عام 1967، بعدما خسروا الحرب مع إسرائيل، ولد حربي واختار له والده هذا الاسم آملًا أن يكون نجله من جيل الحصاد وأن يكون بطلًا في حروب التحرير ضد إسرائيل، الأمر الذي دفع ضربيته "حربي" ولم يضيع آمال أباه فكبر وكبر معه اسمه المخيف للاحتلال وأصبح له نصيب كبير منه، فصار من أبرز المناضلين بين إخوته الـ12، حتى وصل الأمر إلى أن حكم عليه بـ9 مؤبدات و70 سنة سجنا بنحو 900 عام، "كان كل لما الجيش الإسرائيلي يشوف البطاقة انضرب بسبب اسمي".
في عشرينياته، وبعد خروجه من سجون الاحتلال، قلبت حياة حريي رأسًا على عقب وابتسمت له الحياة، بعدما قابل غادة خلال زيارته لأحد أصدقائه وكان مديرها واشتعل قلبه بنار الحب، "رفضت إني أدخل، ومع ذلك خطفت قلبي"، بعدها صار يتحجج ليزور مديرها ويراها، لاسيما بعدما أخبرها مديريها أن حربي الوحيد الذي لا يقف على الباب ويدخل دون استئذان أي وقت يأتي به، ولم يستمر هذا الوقت كثيرًا حتى اعترف لها بحبه، وخلال شهر أنهى الأمر برمته وتزوجا، "من وقتها وهي سند، وأم وزوجة مثالية، ومضحية لأبعد الحدود"، مشيرًا إلى أنه منذ ذلك الحين وحبهما يزيد وينمو لا يقل للحظة.
أسس حربي وغادة بيتًا عماده الحب، وأركانه الوفاء، ملئاه دفئًا انتقل لأولادهما، وعلى مدار سنوات زواجهما التي امتدت لأكثر من 28 عامًا، كانت سنوات عمره تضيع في سجون الاحتلال، ورغم ذلك كانت صامدة وصابرة لم تتأفف يومًا، ومع كل مرة يزيد حبها له وهو كذلك كما يقول، ولم يصدف وأن منعته مرة من عملية فدائية كان يريد أن يقوم بها، وصر هذا الأمر حتى أفقده الاحتلال إحدى قدميه، قبل أربع سنوات، ومنعه حينها من لعب كرة القدم "كنت محترف في صفوف نادي الشجاعية ومن عائلة كروية"، ليضيع حلمه الرياضي.
قصة حب فلسطينية قهرت الاحتلال
بكل ما أوتيت حاولت "غادة" على مدارس السنوات الأربعة، أن تعوض زوجها عن تلك المعاناة، فظلت بجواره تعينه على الإصابة تطببه تدلله، "مكنتش حابه تحسسني بأي شيء، وكانت عوض ربنا ليا، وفوزت بحبها اللي قدرنا بيه نتخطى كل الصعاب"، ومع الحرب الحالية، بدأت صفحة من صحفات المعاناة لأسرة حربي، تخطوه أيضًا وقهروا الاحتلال بالحب، فرغم صعوبة قرار رحيله على قلبه، إلا أنه نزل إلى رغبة زوجته بعدما حاصر الموت كافة الأرجاء بالشجاعية، وصارا ينتقلان ومعهم أبنائهم الأربعة "عبد- ومحمود - وحلمي - ودلال"، بين البيوت والأحياء، حتى حدثت الفاجعة.
في ليلة رأس السنة 31/ 12/ 2023، بعد دخوله المنزل بـ 3 دقائق فقط، ضُرب المنزل بـ3 صواريخ، استشهد خلاله عدد من الجيران وأصيب آخرون، وسقط جدران المنزل عليهم، "بس اتبسط جدًا إنها جت فيا مش حد من ولادي ولا مراتي، وكمان خجلت إني أروح مع الإسعاف ومحستش بحماوة الضربة، وفيه ناس ممزعة وأشلاء، فصعب تقول مصاب"، لتتدهور حالته الصحية فيما بعد، ولم يجد أمامه سوى البتر "بس الحمد لله أنا باعتبر حالي أقل الخساير".
وبالفعل بدأت الإجراءات وقدم "حربي" إلى مصر لإتمام عملية البتر بمستشفى الزقازيق العام، ورغم ما قدم له من خدمات ومعاملة خاصة حظى بها، إلا أنه كان ينقصه الجزء الأهم في حياته، "غادة كانت مع أختها مصابة بالحرب وبتتلقى العلاج في قطر"، حينها هاتفها وكان في قلبه غصة، ولا يحب أن يزيد الحمل عليها، "قولتلها أنا حاليًا هبتر رجلي الثانية، والموضوع هيكون صعب، إذا صار البتر هتظلك معي؟"، لترد عليه بقولها: "مستحيل أتركك أنت كل حياتي ومالي عيني وراسي"، كانت تلك دفعة قوية له قبل إجراء العملية، وبعدها أجرى اتصالات عدة لمحاولة قدومها لمصر وأن ترافقه، وبالفعل كان، "عملت المستحيل عشان تيجي، وحضورها عندي نساني البتر، وكنت مبسوط"، ولم تتردد غادة هي الأخرى لثانية في النزول، بل كانت دقات قلبها تسابق قدمها وهي قادمة لمصر للقاء حربي، "مكنتش قادرة أقعد من غيره، عشان بيروق معي وأنا بروق معه".
كرم الله فوق الوصف والخيال
"واقعي وبحسبها بالعقل، لكن حسابات ربنا فوق كل حاجة"، وهكذا بدأ حديثه عن رحلة الحج الذي فاز بها دون ترتيبات أو دخل منه، وهي محض الصدفة كما فوزه بحب غادة الجم، فلم يتبادر ولو للحظة لخيال "حربي" ولا يتطرق في أحلامه إلى إتمام الحج، "الظروف صعبة في غزة، وصعبة لظروف وتكاليف، وكنت خجولا أن اطلبها من ربنا بعيدة، لكن ما أحلى كرم الله ليا وللصبورة اللي عانت معايا وربنا قرر يكافئها".
في كل يوم يجلس حربي رفقة أسرته، يقتله شعور العجز من مساندة إخوته، يساندهم بالدعوات يتذكر معاناته مع الاحتلال قهره لهم مقاومته وفدائياته ضدهم، يتحدث إلى ذويه ونجله عبد ومحمود الذين لايزالون داخل غزة، بين حين والآخر يتطلع إلى بيته الذي حمل الكثير من البهجة والأفراح والأحزان دمرت كلها معه، وينظر إلى شكله بعدما تحول لركام، يقهره محو الذكريات التي يتعمدها الاحتلال، ودمار الأسر وتشتيتها، يملأه إيمان أنه سيأتي يوم ويعودوا للديار حاملين رايات النصر، "لسه معانا مفاتيح بيتنا.. وقريبا العودة".