ننشر نبؤة أحمد خالد توفيق عن اليوم الأخير في حياته (صور)
2 أبريل من عام 2018، خيمت الأجواء الخريفية على المدينة، وأحدهم يحاول أن يلتقط أنفاسه الأخيرة، يدخل المستشفى ويخرج منها، على أمل أن يعود سليما معافى كما كان، استخدم الهاتف الخاص به وبدأ يكتب عن اليوم نفسه قبل 7 أعوام، كان التاريخ نفسه 2 أبريل “بعد أشهر متواصلة من صعوبة التنفس والربو الذي لم أعهده من قبل، الربو من الأسباب القوية التي جعلتني من القلائل الذين لم يذهبوا لميدان التحرير قط، لأن الغاز هناك أكثر من الهواء، كنت منهكًا بشكل متواصل حتى صرت أحمل هم المشي في الشقة أو صعود الدرج. قللت التدخين إلى معدل غير مسبوق ولكن لم أر نتيجة واضحة”
“يوم 2 إبريل عدت من الكلية مرهقًا.. كانت منال زوجتي في المطبخ تنهي إعداد الغداء. همست: ألا يا عتبة الساعة.. أموت الساعة الساعة، لتبقى كتابته لها :”“ليتنا أنا وأنت جئنا العالم قبل اختراع التلفزيون والسينما لنعرف هل هذا حب حقًا أم أننا نتقمص ما نراه؟”.
لم تفهم ما أعنيه فقلت لها إنه بيت شعر لأبي العتاهية كان يمقته لأنه ضعيف المستوى. جلسنا لتناول الغداء.. ثم.. شعرت للحظة بتلك الضربات المختلة من قلبي.. نوع من النغبشة الكهربية الغريبة.. لا تتوقف.. قلت لنفسي سوف تتوقف حالاً. اصبر
(ظلام)
“أفتح عيني لأجد دائرة من الوجوه الباكية.. منال.. محمد.. مريم.. كلهم يتوسلون لي كي أفتح عيني. ماذا حدث؟.. لماذا أنا على الأرض؟.. لماذا أنا واهن هكذا؟.. هل نحن في النهار أم الليل؟.. لماذا يبكون؟.. بدا لي هذا سخيفًا.. كما أن صديقي د.رائف وصفي كان جالسًا في الصالة مما بدا لي غريبًا.. هو لا يأتي من دون موعد أبدًا”
فهمت ببطء أن قلبي توقف عن العمل تمامًا وسقطت على الأرض، وقمت ببعض التشنجات اللطيفة جدًا. زوجتي طبيبة وتعرف ما تقول. أما عن محاولات محمد للاتصال بالإسعاف فقد فشلت تمامًا كالعادة، وهكذا اتصل بصديقي رائف ليتصرف
ما لم أعرفه كذلك هو أن في ذات اللحظة توفى صديق عزيز اسمه رفعت فوزي بنوبة قلبية. كان رائف على وشك الاتصال ليخبرني بذلك! ما معنى هذا؟
طلبوا مني أن أذهب للطبيب لكني كنت أعرف شيئًا واحدًا: لو لم أنم الآن لنصف ساعة مع كل هذا التعب، فسوف أموت. توسلوا لي لدرجة أنهم تمسكوا بقدمي لكني صحت: أتوسل لكم أن تتركوني أنام.. أنتم تقتلونني!
“ورقة جانبية يكتب فيها :”اليوم، كان من الوارد جدا أن يكون موعد دفنى هو الأحد 3 أبريل بعد صلاة الظهر.. إذن كان هذا هو الموت، بدا لى بسيطا ومختصرا وسريعا، بهذه البساطة أنت هنا، أنت لم تعد هنا، والأقرب أننى لم أر أى شىء من تجربة الدنو من الموت التى كتبت عنها مرارا وتكرارا، تذكرت مقولة ساخرة قديمة، هى أن عزاءك الوحيد إذا مت بعد الخامسة والأربعين هو أنك لم تمت شابا”.
ودخلت إلى الفراش لأرقد.. وغبت عن العالم، فقط كنت أفتح عيني من وقت لآخر لأجد أن مريم ترقد جواري ممسكة بيدي. لقد قامت بعمل ورديات مع محمد للنوم بجواري وإمساك يدي، حتى لا أنزلق إلى العالم الآخر
بعد ساعة ونصف نهضت من النوم فأخذت (دش) وجاء رائف من جديد بسيارته ليوصلني للطبيب.. الطبيب هو الدكتور أيمن السعيد أستاذ أمراض القلب بطب طنطا، والذي صار أول عميد منتخب بعد ذلك. ذهب رائف ليبحث عن مكان يركن فيه السيارة، وصعدت لعيادة الطبيب بلا جهد سوى أن ساقي كانتا رخوتين فعلاً. جلست أنتظر دوري ثم ناداني الممرض لأدخل.. دخلت منال ثم تبعتها وهنا شعرت بالنغبشة الكهربية اللعينة إياها، فقلت لها: لقد عاد!
“ستكون مشاهد جنازتى جميلة ومؤثرة لكني لن أراها للأسف، برغم أنني سأحضرها بالتأكيد”
أنا في سيارة يقودها غرباء تنهب شوارع طنطا في الظلام. منال تجلس ورائي وتسند رأسي حتى لا يقع، والغريب أن د. أيمن السعيد معي في السيارة. يتكلم في الهاتف: أريد مقعدًا على باب القسم فورًا. أعرف أن قلبي توقف مرة أخرى وسقطت، وهرعت منال صارخة تقتحم غرفة الكشف.. جاء الطبيب ووضع جهاز الموجات الصوتية على قلبي ليكتشف أنه رخو تمامًا.. هذا ارتجاف بطيني وهو يختلف كليًا عن الارتجاف الأذيني بتاع حسني مبارك (الذي يدللونه بارتجاف أوزوني لسبب ما)
ليس من المعتاد أن يحتفظ طبيب القلب بجهاز صدمات كهربية في عيادته، وليس من المعتاد أن يكون الجهاز مشحونًا، والأغرب أن هذا الجهاز جاء للعيادة منذ أيام معدودة لا أكثر. المهم أنه كان موجودًا وأنه وضع القطبين على صدري و… بوم!… عاد القلب ينبض
ثم جاء دور العثور على سيارة.. سيارة الطبيب غير متاحة الآن ورائف ليس هنا.. النتيجة أنه بحث عن أي أشخاص يقبلون نقلنا للمستشفى، وعندما أفقت كانت السيارة تدخل إلى مستشفى طنطا الجامعي – عناية القلب. وكان د. أيمن يدفع المقعد بنفسه لاهثًا.. وعندما رقدت على الفراش أخيرًا ووضعوا الأقطاب على صدري عرفت أن الوضع خطير جدًا.. قناع الأكسجين.. القسطرة.. الوجوه الساهمة من حول الفراش.. لكني غير مهتم.. لا أريد سوى النوم.. أريد أن انااااام
أصر د. أيمن على أن أوجد في هذه العناية المجانية لأن الأطباء قريبون جدًا عندما رقدت في الضوء الخافت بعد ذلك، كنت أفكر في أحداث اليوم. كان من الوارد جدًا أن يكون موعد دفني هو الأحد 3 إبريل بعد صلاة الظهر
إذن كان هذا هو الموت.. بدا لي بسيطًا مختصرًا وسريعًا.. بهذه البساطة.. أنت هنا.. أنت لم تعد هنا.. والأغرب أنني لم أر أي شيء من تجربة الدنو من الموت NDE التي كتبت عنها مرارًا.. تذكرت مقولة ساخرة قديمة هي أن عزاءك الوحيد إذا مت بعد الخامسة والأربعين هو أنك لم تمت شابًا!
بالنسبة لي مت مرتين في يوم واحد، ولم يكن الأمر صعبًا جدًا.. فجأة انقطع الفيلم في لحظة بعينها ثم عاد بعد حذف عشر دقائق. جميل جدًا ألا تعرف أنك تموت ولا تتوقع ذلك. فجأة أنت هنا.. فجأة أنت هناك مع السر الأزلي، وتدخل عالم القبر والكفن وانتفاخ البطن وسقوط الأنف.. ويخافك الأحياء.. لكنه بلا شك أفضل من معاناة صعوبة التنفس أيامًا وأنت موصول بجهاز تنفس، أو الشلل عدة أشهر وتلويث الملاءات، أو السقوط تحت عجلات قطار أو ميكروباص مجنون.. كانت ميتة جيدة نظيفة برغم كل شيء
شاء الله ألا يفقد الصغيران أباهما الآن مرت علي الأيام هناك في قسم القلب، وبدأ اللغز يتضح نوعًا… عضلة القلب متضخمة بسبب ارتفاع ضغط الدم وهذا جعلها غير مستقرة تمامًا.. ربما عملت أدوية الربو الكثيرة على إصابة العضلة بالجنون، وربما هو نقص في البوتاسيوم أم المغنسيوم. المهم أنني كنت أريد أن أنام.. لكن هذا كان مستحيلاً لأن صديقًا أو قريبًا كان يأتي كل خمس دقائق.. وفي الليل تبدأ الممرضات في الشجار والكلام بصوت عال، ومع الصباح يصل الزوار ثانية حتى طلبت من الأطباء كتابة ورقة تعفيني من الزيارات.. كنت أنهار فعلاً وصرت مرهقًا والعالم صار شفافا غريبًا.. أريد النوم بأي ثمن. صديقي د.إيهاب نائل فهم المشكلة فورًا فجلب لي شريطًا من الأقراص المنومة، ومع أول أقراص غبت في عالم سحري.. لدرجة أنني صرت أسمع موسيقا الكالبسو، وأرى راقصات من الكاريبي في العنبر، وفوق الفراش هناك ببغاء ملون يراقبني، وخيل لي أن الممرضات يلبسن قبعات قش عملاقة (لا أمزح). لقد أنقذ إيهاب حياتي فعلاً
لم أكن في ذلك الوقت أعرف ما يقال من ورائي منال زوجتي قابلت د. أيمن السعيد وقابلت أصدقائي تستشيرهم، وكانت تفعل ذلك عندما يأتي محمود ابن أختي لزيارتي فيأخذ مكانها. كانت هناك مشكلة مزمنة تتعلق بي لأنني لا أتحسن برغم كل المحاولات.. لا توجد طريقة لجعلي أعود للبيت ثانية.. لا ضمانات. هنا فكر د. أيمن في أن يرسلني لمستشفى عين شمس التخصصي ليقوموا بزرع جهاز حديث لي. اتفق مع زوجتي على ذلك وتم ترتيب كل شيء
يوم الأربعاء التف كل اصدقائي حولي وقالوا إنني يجب أن أذهب لمستشفى عين شمس… لقد تم ترتيب الأمور هناك، وأخبرني د. أيمن أنه ألغى سفره إلى إسبانيا ليتأكد من أنني سأجري الجراحة في عين شمس بلا مشاكل. شعرت بالهلع.. كنت أحسب قصتي قد انتهت، وأتاهب للعودة للدار فاتضح أن هذه هي البداية!… وعرفت أن زوجتي تعرف هذا كله. كنت أشعر أنني لن أرى طنطا ولا أولادي ثانية.. وطلبت أن يجلبوا محمد ومريم لي لأراهما مرة ثانية وربما أخيرة
كانت جلسة قاسية سيئة ومريم بثياب المدرسة لا تفهم شيئًا وكذلك محمد. ثم جاءت سيارة الإسعاف تقف أمام قسم القلب فصعدت لها لأجرب لأول مرة شعور الضحية الراقدة.. شعور القتيل كما كنا نقول مازحين. في السيارة تركب معي منال ود. عمرو فايز مدرس أمراض القلب، والأمطار تنهمر.. جو مناسب جدًا للموت. وتنطلق السيارة في الشوارع والسرينة تدوي.. هذا أنا يا شباب.. هذه المرة أنا المريض.. وسع الطريق.. معانا كاتب قصص رعب يموت.. خليك يمين يا ملاكي.. من حين لآخر ينهض د. عمرو ليقيس ضغط دمي.. متأهبًا لعودة توقف القلب في أي لحظة
وعند المساء وصلنا مستشفى عين شمس التخصصي العناية المركزة هناك تتمتع بالكفاءة والدقة ، لكنها كئيبة جدًا.. تشعر أنك في قبو تحت الأرض، طبعًا شبكة المحمول لا تعمل على الإطلاق. هناك كان ابن أختي بانتظاري ودخلت منال في مشاكل مع طبيب العناية الذي يصر على ألا تبقى معي، وكان هذا رأيي على كل حال، لكنها اتصلت بدكتور وجدي جلال أستاذ أمراض القلب الذي طلب من الطبيب أن يتركها تبقى
ليلة طويلة هي فعلاً :”لا أريد أن أتلوى ألما لحظة الاحتضار.. أريد نهاية نظيفة كلحظة انقطاع الكهرباء”، وهكذا كانت نهايته فى القاهرة حيث ذهب للاطمئنان على قلبه، فاستقبله الموت”.
في الصباح نقلوني لغرفة الجراحة حيث كان د. وجدي جلال ومعه فريق بالغ الكفاءة.. أجروا عملية قسطرة (بسرعة البرق) عرفوا بعدها أنه لا مشكلة في شراييني التاجية. هذه مشكلة كهرباء وليست مشكلة سباكة كما يقولون. وهكذا بدأت أغيب عن العالم مع ما حقنوني به، بينما هم يفتحون فتحة في صدري ويغلقون فتحة فخذي. وعندما أفقت بعد ساعة كان كل شيء قد تم، وزرعوا الجهاز الذي يبلغ حجمه تقريبًا حجم ماوس الكمبيوتر
الجهاز الذي زرعوه لي ليس منظم ضربات للقلب.. إنه أعقد من هذا… اسمه ICD ومهمته أن يراقب النبض فإذا شعر باضطراب أو ارتجاف بطيني أطلق الصدمة الكهربية التي تعيدني للحياة، ويعمل بحجارة تستبدل كل سبع سنوات. جهاز باهظ الثمن طبعًا لكن جامعة طنطا قامت بتحمل تكاليفه بالكامل
وعدت للبيت بعد يومين بينما الأمطار تنهمر أتابع الجهاز دوريًا في مستشفى عين شمس مع الأستاذة الدكتورة هيام، وهي بالغة الاهتمام بفسيولوجيا القلب. شعرت مرتين بالجهاز يصدر أزيزًا، ولا أعرف معنى هذا.. ربما معناه أنني نجوت مرتين أخريين
كانت المشكلة في المرحلة التالية هي الدوار.. فعلاً لا أستطيع أن أبقي رأسي مرفوعًا أبدًا.. المشكلة الثانية كانت الاكتئاب.. اكتئاب شديد مروع استمر عدة أشهر، وهو شبيه بالاكتئاب الذي يصيب كل من يخرج من نوبة قلبية.. ذلك الشعور الكئيب بأن اليوم طويل والإضاءة ضعيفة والتنفس صعب!.. يضيق صدرك تمامًا وتشعر بأطنان تجثم عليه.. فعلا شعور فظيع! لو لم يزل لكنت قد جننت فعلاً
دعك من رقابة زوجتي الصارمة لي طبعًا منعتُ التدخين ومنعتُ القهوة، لكنها كانت تريد منع الشاي كذلك.. تعتقد أن الأطباء نسوا منعه.. منع التدخين ساهم في تفاقم حالة الاكتئاب، وما زلت حتى اليوم أنظر بحسد لكل من يدخن بلا تأنيب ضمير أو لوم
عندما راجعت الفحوص الطبية وجدت أنه كان من الخسارة ان أموت.. أنا مهمل في صحتي جدًا، وكنت أتوقع وضعا في غاية السوء، وأن أجد الكلية تالفة والشرايين التاجية مسدودة ولدي سكر لم يعالج.. الغريب أن كل شيء رائع.. وظائف الكلية ممتازة.. لا يوجد سكري.. دهون الدم سليمة تماما.. الشرايين التاجية كشرايين طفل.. طفل لم يدخن سيجارة أو يشرب قهوة أو يأكل قطعة دهن في حياته!
لقد عدت للحياة.. يجب أن أتذكر هذا.. ربما كانت لعودتي دلالة مهمة.. لا أعرف.. ربما كان هناك عمل مهم جدا سوف أنجزه.. لكن ما هو؟.. أخشى أن أكون قد عدت لأتلف ما قمت به في حياتي الأولى
الموت يأتي بسرعة فائقة فلا تراه قادمًا.. ومن ماتوا لم يجدوا فرصة ليخبروا الآخرين بهذا. أنا من القلائل الذين عادوا ويمكنهم أن يؤكدوا لك ذلك! :”.
“وداعا أيها الغريب.. كانت إقامتك قصيرة، لكنها كانت رائعة.. عسى أن تجد جنتك التى فتشت عنها كثيرًا.. وداعا أيها الغريب.. كانت زيارتك رقصة من رقصات الظل.. قطرة من قطرات الندى قبل شروق الشمس.. لحنًا سمعناه لثوان من الدغل.. ثم هززنا رؤوسنا وقلنا أننا توهمناه.. وداعا أيها الغريب لكن كل شىء ينتهى”.