الملحد..!
الفلسفة كما قال الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925 – 1995م)، هي «فن تكوين وصنع المفاهيم». وهذا يعني أن الفلسفة أداة عقلية لا غنى عنها لتكوين وضبط وتحديد مضامين ودلالات المفاهيم التي تتردد في قاعات المحاضرات والفضاء العام، وعبر أجهزة الإعلام والقنوات الفضائية وبوابات ومواقع الصحافة، والتي يتفق الناس معها أو يتصارعون حولها دون أن الاتفاق على معاني ودلالات واضحة ومحددة لها.
من أبرز هذه المفاهيم المُثيرة للجدل في الفضاء العام المصري مؤخرًا بعد الإعلان عن قرب عرض فيلم سينمائي مصري يحمل عنوان "الملحد"، هو مفهوم الإلحاد، مما يوجب علينا - نحن المشتغلين بالفكر الفلسفي درسًا وإنتاجًا ونطمح إلى الخروج بالفلسفة خارج أسوار الجامعة - ضرورة تحديد وضبط مفهوم الإلحاد والملحد، كمقدمة لا غنى عنها لكل مهتم بموضوع الفيلم، ولكل من يرغب في مشاهدة وتشريح الفيلم بعد عرضه، وتحديد رسائله الفكرية الصريحة والضمنية، وموقفه الحقيقي من الإيمان والإلحاد وتصنيفاتها.
الإلحاد Atheism في اللغات الأوربية كلمة تعود أصولها إلى اللغة اليونانية، وهي تعني اصطلاحا نفي وجود الله، وإنكار كافة الأمور الغيبية الإلهية التي تترتب على القول بوجود إله خالق للعالم والإنسان، مثل روحانية النفس الإنسانية، ووجود العالم الآخر، والثواب والعقاب بعد الموت، والنبوة، وتدبير الله وعنايته بهذا العالم ولحياة الإنسان فيه.
لكن علينا أن نميز هنا بين نوعين من الإلحاد، هما الإلحاد العملي والإلحاد النظري؛ الأول الإلحاد العملي: هو موقف من يُقر نظريًا بوجود إله، لكنه يتصرف في حياته ومواقفه وعلاقاته كما لو لم يكن هناك إله، أو كما نقول في حياتنا العادية في وصف أحدهما لتجبره وقسوته ولا أخلاقياته: دا إنسان ميعرفش ربنا.
أما الإلحاد النظري فهو ينقسم إلى قسمين؛ الإلحاد النظري المُطلق، والإلحاد النظري النسبي. ويُطلق وصف الإلحاد النظري المُطلق على موقف الذين يُنكرون بإطلاق وجود الله ووجود كافة الأمور الغيبية الإلهية، وهو ينقسم بدوره إلى قسمين: إلحاد نظري مطلق سلبي، وإلحاد نظري مطلق إيجابي.
الإلحاد النظري المطلق السلبي، هو موقف من ينكر وجود الله والأمور الإلهية، إما عن جهل مثل الإنسان البدائي المتوحش، وإما عن عدم اهتمام أو اكتراث بالموضوع، مثل الفيلسوف اليوناني السوفسطائي الشهير بروتاجوراس المتوفى عام 420 قبل الميلاد، والفيلسوف الإيطالي بينيديتو كروتشه المتوفى عام 1952.
أما الإلحاد النظري المطلق الإيجابي (الأيدلوجي)، فهو موقف الذين يُنكرون وجود الله لأسباب فكرية يرونها، ويصنعون لدعم رأيهم مذاهب فلسفية يتذرعون بها لتأكيد موقفهم، وهو فعل الفلاسفة الماديين، مثل الفيلسوف أبيقور قديمًا، والفلاسفة فيورباخ وماركس ونيتشه في العصر الحديث.
ويبقى لنا في هذا التصنيف والتحديد المفاهيمي، مفهوم الإلحاد النظري النسبي، وهو موقف المؤلهين أو أصحاب مذهب الدين الطبيعي، الذين يقرون بشكل أو أخر بوجود الله، لكنهم ينكرون كافة الأمور الغيبية الإلهية المترتبة على هذا الإقرار، كما ينكرون فكرة ووظيفة النبوة. ويندرج تحت هذا المفهوم الفلاسفة الوضعيين، وبعض تأويلات الفيلسوف اليهودي سبينوزا، والفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم.
وبانتهاء هذه التصنيف والضبط المفاهيمي لكلمة "الإلحاد" يُمكننا أن نعرف بدقة معنى وتصنيفات وصف "الملحد"، ويُمكننا بعد ذلك مشاهدة فيلم "الملحد" عند عرضه، وتحديد مقاصده ورسائله، والحديث عن دور الإلحاد والإيمان في حياة الإنسان، ومنطقية أو لا منطقية كل منهم، وموقعه كعامل بناء أو عامل هدم في بنية المجتمعات والحضارة الإنسانية القديمة والمعاصرة.