تأملات في أولمبياد باريس 1
عظيمة هذه اللحظة التي ترمق فيها تتويج بطل بعد عناء شديد، تلك اللحظة الساحرة التي تتجمع فيها كل معاني الفخر والانبهار والمباركة، تلك التي عايشتها عند تتويج البطلة المصرية سارة سمير بفضية رفع الأثقال في أولمبياد باريس بعد أداء باهر واستعداد مرهق، والتي ساقتني الأقدار لحضورها مشجعا ومؤازرا ومحتفلا، رغم أنه لا تربطني باللعبة أو بطلتنا سابق معرفة سوى انشغالي بالملف الرياضي إبان وجودي في مجلس نواب 2015 وتحديدا وقائع مخالفات الاتحادات وعلى رأسها اتحاد رفع الأثقال واللجنة الأولمبية وقت رئاسة هشام حطب.
وبعد المباركة الجمّة لسارة وأحمد الجندي تحديدا اللذين رفعا علم مصر في الافتتاح واستحقا شرف تمثيلها بالأداء البطولي، وكذا لمحمد السيد صاحب برونزية الشيش، فقد حان الحديث بشكل أعمق عن الأداء المصري في البطولة بشكل عام لعل وعسى أن يكون مرجع لما هو قادم، حتى نتعلم من الأخطاء ونبني على الإنجاز ويكون هناك استعداد حقيقي مؤسسي يضمن نتائج أفضل بدلا من إلقاء اللوم على المجهود الفردي أو الأقدار فقط، أو الإنجراف نحو فكرة المحاسبة بشكلها الشمولي دون النظر للأمر من زاوية أوسع.
فقد تلاطمت المشاعر في الأسابيع الأخيرة وتعالت معها الأصوات مطالبة بالتحقيق والمحاسبة فيما اسماه الناس إخفاقا للبعثة المصرية ووصف العديد نتائجها بالهزيلة -انعكاسا لأداء منتخب كرة القدم أمام نظيره المغربي تحديدا-، وبالطبع لا أدعي الخبرة الرياضية الكافية ولكن لسابق تعاملي مع دهاليز الملف الرياضي وارتباطي بعلوم الإدارة والاقتصاد بحكم التخصص فإن الأمر لا يمكن النظر له بشكل قطعي يقف عند حد الانتقاد فحسب دون الدخول في التفاصيل بالشكل الذي يجعلنا نتفهم ما حدث ونبني للأمام.
ورغم أن الموضوع أعقد من أن تتم مناقشته في مساحة كتابية إلا أنها قد تكون دافع ومحرك فعلي لصناع القرار في هذا الملف، وكذا لإعطاء خلفية وتحليل للمتلقي تمكنه من الحكم وكذا بعض التصورات للنظرة المستقبلية تخص المشهد برمته، حيث أحاول التركيز نقاط محددة بينها محددات النجاح، منظومة الرياضة المصرية، وآليات التأهل والفوز، اعتمادا على تجارب مشابهة أو قواعد عامة.
وحقا.. الحديث عن محددات النجاح أمر هام، فالنجاح في الرياضة مشابه لهذا الذي في الاقتصاد، حيث يتطلب عملا مستمرا وليس وليد اللحظة، وفي مقال بعنوان لماذا تتفوق بعض الدول في رياضات معينة؟ حاول المحرر الرياضي لوك برادشو الإجابة على سؤال: ما الذي يجعل دولة ما متميزة في رياضة معينة؟ وضرب أمثلة على تفوق مصر في رياضة الإسكواش وكيف تهيمن كوريا الجنوبية على الرماية، وكيف تهيمن إيران على المصارعة.
طرق برادشو أمر هام للغاية وهو التراكم البشري، وهو ما يعني أن النجاح هو نتيجة ثقافة كاملة وإلا صارت النجاحات وليدة الصدفة والحظوظ أو المجهود الفردي، وفكرة استمرارها قد لا تكون متاحة.
وعلى سبيل المثال، تحظى رياضة الرماية بشعبية كبيرة في فرنسا، لكن حكومة كوريا الجنوبية تستثمر ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما تستثمره نظيراتها الفرنسية في هذه الرياضة، ولأن الثقافة قد تم تأسيسها بالفعل -في فرنسا-، تستثمر الحكومة ما هو أهم من المال، حيث يتم تشجيع المزيد من الأطفال على ممارسة هذه الرياضة فتصبح الدورة ذاتية التحقق، حيث يكبر هؤلاء الأطفال ليصبحوا الرياضيين الرائدين في البلاد، ما يوفر الإلهام للجيل المقبل، وأسباب إضافية لمزيد من التمويل؛ لذا، ففي حالة كوريا الجنوبية، عندما فاز طالب في المدرسة الثانوية يدعى كيم جين هو بأول ميدالية فردية للبلاد في بطولة العالم في برلين عام 1979، فقد أدى ذلك إلى ارتفاع مفاجئ في الشعبية إلى تحويل كوريا الجنوبية إلى قوة عظمى في هذه الرياضة وكان فوزه بمثابة الإشعال.
وفي كتابه قانون الموهبة، قال دانييل كويل إن المناطق الجغرافية - سواء كانت مدينة أو بلدًا أو أكبر - تتطلب ببساطة الإشعال، يليه تدريب الخبراء، للتفوق في رياضة معينة، حيث يؤكد كويل أنه لا يوجد شيء اسمه الموهبة الطبيعية، وأن فكرة ولادة الأطفال بمواهب معينة، والعمل الجاد، وامتلاك الشغف ليصبحوا عظماء، هي قصص رائعة، تلك القصص الملهمة التي تعكسها تجربة مثل لاعب كرة السلة العالمي مايكل جوردان أو أبطال مصر كرم جابر وأحمد الجندي وسارة سمير وغيرهم من الفلتات، فكلها وغيرها قصص جميلة إلا أن الإشكالية هو أنها بلا تراكم ولا منظومة تشجع ذلك، تصبح غير قابلة للتكرار.
فحدوث ما تقدم يتطلب وقت وخطط طويلة الأمد قد لا تؤتي ثمارها في دورة أولمبية ولكن تساعد على التراكم لدورة مقبلة، بالضبط كما يعكسه مثال منتخب سلاح الشيش المصري الذي خرج من باريس بميدالية برونزية واحدة لأحمد السيد لكنه رسخ اسم لمصر كقوة قادمة وهو ما حدثتني به البطلة الإيطالية مارزيا موروني صاحبة فضية بطولة العالم للشباب 2007، وبرونزية بطولة العالم 2014، واللاعبة السابقة بالمنتخب الإيطالي.
قالت موروني إن جيل السلاح المصري الحالي هو أقوى ما رأت في آخر 20 عاما، وهو ما يعكس فكرة التراكم والذي يفرز نتاجا مستمر كحال مصر في الإسكواش وكوريا في القوس والسهم، لكن رغم أن هذا التراكم يتطلب وقتا، إلا أنه لا يأتي صدفة، ولا يأتي دون تخطيط ويصطدم كثيرا بسوء الإدارة، وهنا يأتي دور النقطة التالية في ما أحاول طرحه وهي حال المنظومة الرياضية المصرية، وإلى أي مدى هي مؤهلة لإدارة مثل هذا التراكم.. للحديث بقية.