جميل الجميل
في أواخر العصر العباسي وفي واحدة من أصعب أوقات الفترة دي، كان فيه شاب ساقي اسمه "جميل" من أشهر الناس اللي بيمشوا يسقوا غيرهم ميه في الشارع.. طيب ليه "جميل" كان مشهور؟.. لسبب بسيط جدًا وهو إنه كان اسم على مسمى.. شاب وسيم.. ضحكته حلوة.. عمره ما بيكشر في وش حد.. بيعامل الناس بذوق.. ورغم الشيلة التقيلة بتاعة الزير التقيل اللي على ضهره لكنه كان في منتهى الشياكة والأدب مع الكل وعمر ما حد سمعه بيتذمر ولا بيشتكي!.. وصل لدرجة إنه في معظم الأيام ماكنش بياخد فلوس من الناس اللي مش معاها بس عايزين يشربوا.. خُد يا سيدي اشرب والحساب يبقى يجمع بعدين!.. "جميل" كمان كان عنده ميزة جميلة جدًا وهي إنه حكاويه حلوة.. قعدته مايتشبعش منها!.. هو دايمًا عنده مخزون من الحكايات اللي يجبرك تقعد تسمعه وتضحك أو تبكي أو تفكر!.. فبقى من العادي إنك تشوفه غير إنه بيسقى الناس لكن واقف بيحكيلهم بمنتهى الحماس عن شيء ما وهو بيحرك إيديه وجسمه كله وكإنه ممثل واقف على مسرح.
الخليفة العباسي وقتها واللي بيقال إنه كان سليمان المستكفي بالله كان عنده عادة لطيفة كده وهي إنه بيتخفى وينزل يتمشى وسط الناس في الشوارع والسوق ويسمعهم ويشوفوهم بيقولوا إيه سواء عنه أو عن حكمه ومملكته عمومًا.. الخروجات دي كانت مفيدة جدًا للخليفة لإنه كان بيقرب فيها من إحساس الناس وياما كتير قرارات تم اتخاذها بعد الزيارات دي.. في مرة وفي أثناء ما هو ماشي ومغطي وشه شاف الشاب "جميل"!.. لفت نظره الطريقة اللي بيتعامل بيها مع أي حد بيقابله!.. لما رجع قصره طلب من وزيره إنه يجيب له "جميل" الساقي ويبلغه إنه من النهاردة هيشتغل عنده في القصر عشان يسقي ضيوف الخليفة ويقعد جنبه يحكيله حكاياته الطريفة دي.. الوزير قابل "جميل" وبلغه بالمهمة المطلوبة وطبعًا طار من الفرحة لإن الخطوة دي معناها نقلة عظيمة في حياته ماكنش يحلم بيها.
جرى على بيت مراته وبلغها بالخبر السعيد وبشره بالخير اللي كلها أيام ويبقى بين إيديهم.. تاني يوم غسل الزير بتاعه كويس وملاه بالميه وطلع على القصر.. قابل الخليفة وقعد جنبه وبدأ يحكيله الحكايات بتاعته والخليفة يضحك ويضحك ويضحك.. وكمان ضيوف الخليفة كانوا بيضحكوا لدرجة إن فيه ناس منهم من كُتر الاندماج كانوا بيشرقوا فكان "جميل" يقوم بسرعة يسقيهم ميه وهكذا.. في نهاية اليوم الأول أدى "جميل" دوره بمنتهى الكفاءة والجدارة!.. استمر الوضع على ما هو عليه لمدة 3 شهور وكل يوم منهم مكانة "جميل" بتزيد عند الخليفة وضيوفه.. لكن على الناحية التانية كانت النار بتاكل في قلب الوزير اللي شاف إن إزاى حتة عيل ييجي في كام يوم يبقى له المكانة الكبيرة دي كلها عند الخليفة وأنا اللي بقالي سنين بتعامل مع القصر بإخلاص يبقى مكانتي أقل منه!.. لازم الواد "جميل" ده يطير من القصر.. بس إزاى؟.. الموضوع عايز حيلة وشوية مكر.
انتظر اللحظة المناسبة وفي يوم من الأيام استفرد بـ "جميل" وهو خارج من القصر وقال له: الخليفة بيشتكي من رائحة فمك الكريهة.. "جميل" استغرب لإن عمر ريحة بوقه ما كنت وحشة لكنه استسلم كلام الوزير فقال: وماذا أفعل حتى لا أؤذيه برائحة فمي؟.. الوزير رد: عليك أن تضع لثاما حول فمك عندما تأتي إلى القصر.. تاني يوم راح "جميل" للقصر وهو حاطط حتة قماش حوالين بوقه كإنه مقنع ومارس دوره اليومي عادي جدًا!.. اتكرر موضوع القماشة دي كذا يوم ورا بعض لدرجة إن الخليفة اتضايق وجاب الوزير يسأله إبه الحكاية اللي خلّت "جميل" يحط اللثام على وجهه.. فالوزير عديم الضمير والشرف قال بخبث الدنيا كله: أخاف يا سيدي إن أخبرتك قطعت رأسي.. الملك رد: لك مني الأمان فقل ما عندك.. قال الوزير بسرعة: لقد اشتكى جميل الساقي من رائحة فمك الكريهة يا سيدي.. الجملة نزلت زى الصاعقة على راس الخليفة اللي انزعج فوق الوصف وحكى لزوجته اللي ردت عليه بعصبية وقالت له: هذا الساقي الحقير قال عنك ذلك!، من سولت له نفسه قول هذا غدا يقطع رأسه ويكون عبرة لكل من ينتقص من الخليفة.. الكلام عجب الخليفة اللي كانت شخصيته بتحب الدراما والحركات اللي من تحت لتحت فجاب السياف وطلب منه إنه اللي هيخرج من باب القصر وهو شايل ورد في إيده رقبته تطير فورًا.. السياف قال حاضر.. جه "جميل" للقصر عادي جدًا ومارس مهمته عادي جدًا من ورا اللثام اللي مغطي نص وشه وبوقه وبعد ما خلص الخليفة إداله كيس فيه فلوس زى كل يوم وإداله كمان حاجة زى بوكيه ورد.. لما خرج "جميل" من القصر وقبل ما يوصل للباب الوزير شافه فسأله: من أعطاك هذه الورود؟.. فرد عليه: الخليفة.. فالوزير خطف الورد من إيده وقال له بعدوانية: أعطني إياه أنا أحق به منك.. "جميل" بمنتهى السلاسة إداله الورد وخرج من باب القصر وبعده بلحظات خرج الوزير اللي بمجرد ما السياف شافه ماسك في إيده الورد طير رقبته!.
تاني يوم راح "جميل" للقصر كالعادة فلما دخل الخليفة للقاعة وشافه لسه عايش وبيوزع الميه على الضيوف استغرب جدًا وجابه فسأله: ما الذي أتى بك هنا؟.. "جميل" اتوتر ومعرفش ينطق كلمتين على بعض خصوصًا كمان مع حتة القماشة اللي مغطية بوقه فالخليفة شالها من على وشه بعصبية وكرر سؤاله فـ "جميل" رد: أتيت لأمارس مهام عملي مولاى الخليفة!.. الخليفة سأله: وما حكايتك مع هذا اللثام؟.. "جميل" رد: لقد أخبرني وزيرك يا سيدي أنك تشتكي من رائحة فمي الكريهة وأمرني بوضع لثام على فمي كي لا تتأذى.. هنا بدأت تفاصيل الخية توضح قدام الخليفة اللي سأل: وأين باقة الورد التي أعطيتك إياها؟.. رد "جميل": أخذها الوزير فقد قال إنه هو أحق بها مني.. هنا فهم الخليفة اللي حصل بالظبط وليه لغاية دلوقتي الوزير ماظهرش من امبارح فابتسم وقال: حقا هو أحق بها منك وحسن النية مع الضغينة لا يلتقيان.
"حُسن النية مع الضغينة لا يلتقيان".. قلبك يا إما أبيض، حسن النية، نقي، بيحب الخير للكل.. يا إما الحقد ماليه، وسواد الغيرة طاغي على كل جوانبه.. مفيش قلب ينفع يشيل الاتنين سوا، ومفيش حد نيته سليمة هيطوله أى أذى من إنسان حاقد مهما كانت قسوته أو قوته أو طغيانه.. أصحاب النوايا الطيبة خطوتهم أسرع، أمورهم لما بتمشي بتمشي أنجز، ونجاحهم لما بيحصل بيبقى استثنائي.. كإن الدنيا بأمر رباني قررت إنها تعوضهم خير بعد كل المطبات اللي قابلوها في طريقهم وعطلتهم.. وعلى نياتكم ترزقون.. زى ما تكون النوايا بتكون العطايا.