سلطنة عمان.. أيام في سويسرا الشرق
أعتبر نفسي محظوظًا أن حياتي العملية أتاحت لي التنقل بين ثقافات العالم العربي المختلفة من المحيط للخليج، ففي جامعة بيروت العربية في لبنان قضيت سنين من عمري أتاحت لي فهم لبنان بخريطته المعقدة، وفهم الشام بتداخلاته، ومركزية دوله الأربعة في الصراع العربي الإسرائيلي لبنان- سوريا- الأردن- فلسطين.
ثم هذه السنوات التي قضيتها في موريتانيا العزيزة نائبًا للسفير المصري في نواكشوط ومسؤولًا عن المركز الثقافي المصري هناك، وما أتاحته لي من اطلاع على المغرب العربي بثقافته الرفيعة، وغرب إفريقيا بكل الثراء الكامن فيه.
فلقد كان المركز الثقافي المصري في نواكشوط هو الأول من نوعه وكان موئل العلماء والشعراء هناك، لذا لا عجب أن تجد شعراء مصر في قمة الذائقة اللغوية في الوجدان الموريتاني وهم المحذوّ حذوهم هناك.
وأخيرًا كان محط رحالي في دولة سلطنة عمان الشقيقة أستاذًا في جامعة السلطان قابوس، والتي أعتبرها مرحلة ذات طبيعة خاصة جدًا في فهم الإيقاع النفسي للإنسان العربي الخليجي، ولأتم تجوالي في بلدان العرب خصوصًا ضمن أسفاري حول العالم، فأفهم ما قدر الله لي أن أفهمه من أحوال الإنسان وقانون المكان وطبيعة الزمان الذي نحياه.
عمان لها خصوصية معتبرة تنبع من سماحة طباع أهلها وتسامحهم وهدوء الشخصية العمانية المثير للإعجاب، هذه الشخصية الهادئة الرصينة جعلت اختيارًا سياسيًا للبلاد يجعلها دومًا وسيطًا معتبرًا في الخلافات العربية العربية، فهي ليست جزءًا من حلف ولا من جماعة أو تيار أو توجه، بل اختارت السلطنة أن تبقى على حياد مفهومة أسبابه وبواعثه لدرجة تشبيهها بسويسرا الشرق.
وهو اختيار ابن طبيعي لهذا التكوين النفسي الجميل الهادئ، وليس سلبية كما قد يتصور البعض، وقد قامت بأدوار عدة في إنهاء خلافات عربية كثيرة، وتقريب وجهات النظر.
وكم لحظت في عمان الاحترام والمحبة لمصر وأهلها، وفي عمان جالية مصرية كبيرة هي الثانية أو الثالثة بين الجاليات الأجنبية هناك، وكما يقول الشاعر: إذا اشتبكت دموع في خدود.. تبين من بكى ممن تباكى.
وقد رأيت في عمان المحبة الخالصة لمصر والمصريين والتقدير للدولة المصرية ولسياساتها المتزنة إقليميًا، ومن واقع عملي كأستاذ للتاريخ والحضارة القديمة، لمحت طيلة سنوات، احترامًا أكاديميًا ودقة وعناية بالنشر العلمي المحترم، وكان حال البلاد ككل منضبطًا كالساعة السويسرية خاصة داخل أسوار الجامعة التي يضم قسم التاريخ فيها قامات علمية من مصر والأردن والجزائر وإيران في تناغم علمي خلاق، خاصة مركز الدراسات العمانية، وعنايته بتاريخ عمان، وبحثه في تاريخ البلاد بصورة منضبطة علميا لا غبار عليها، ولا تسعى لانتزاع حقيقة تاريخية من سياقها أو لتضخيمها كما قد يلجأ البعض أحيانا.
لقد اختتمت عملي في هذا البلد الشقيق الطيب، بينما يلوح أمامي عقود من العمل من المحيط للخليج ما زادتني إلا حبًا في وطننا العربي، وما زادتني إلا احترامًا لمؤسسات العلم.
فكم راقني الانضباط والأمانة والقدرة الإدارية السلسة والمنضبطة في عدد من الجامعات التي حاضرت بها، وقد أحسد نفسي على ما ارتأيت من تجوالي في البلاد وتحسسي لآثارها، وأنا ابن أسوان الذي نشأ بين المعابد وأطلال آثار المصريين القدماء، وكأني انظر إلى الصبي الذي كان يرتع في قرى أسوان وهو يتجول ويقارن العالم ببلده ويقارن بلده بالعالم ويسعى لفهم الإنسان، لقد زادتني الرحلة اعتزازًا وحبًا لبلادي.. ورغبة في أن أتعلم حتى آخر نفس في صدري.