مصر بين التحديات والنهوض
يوجد في العلوم السياسية ما يسمى بالحدود الاستراتيجية للدول، وتلك تختلف عن الشريط الذي يفصلها عن كل دولة جارة لها، وإنما تلك الحدود تكون هي البلدان المحيطة بها وقد تصل إلى منطقتها بالكامل، وكلما كانت هادئة آمنة أصبحت الدولة أيضا مستقرة وغير مهددة بشكل مباشر.
عندما ننظر إلى الحدود الاستراتيجية لمصر بحسب هذه النظرية، سنجد أنها فلسطين من ناحية الشمال الشرقي وليبيا غربا، والسودان جنوبا، بالإضافة إلى البحر المتوسط شمالا والبحر الأحمر شرقا.
وبلا مبالغة ربما لم تمرَّ على مصر فترة كانت محاطة بكل هذه المخاطر والاضطرابات الشديدة من قبل، فالوضع في فلسطين منذ احتلالها وإنشاء الكيان الصهيوني على أرضها عام 1948 دائم التوتر، وشهدت المنطقة حروبا منذ ذلك الحين شاركت فيها مصر بشكل مباشر، ودفعت أثمانا باهظة خلال ذلك عبر سنوات عديدة، ولكن ما يحدث الآن في غزة منذ أشهر، وتلك الحرب التي هي إبادة جماعية لسكانها من المدنيين العزل، والتصرفات المستفزة من قِبل الاحتلال الإسرائيلي جعل هذه الجهة بمثابة قنبلة موقوتة يمكن أن تشعل حربا شاملة بمنطقة الشرق الأوسط في أي لحظة، خاصة بعد دخول إيران على خط الأزمة، وهي الداعم المعلن منذ البداية لحركات المقاومة الفلسطينية.
وكان ذلك في البداية بواسطة أذرعها بالمنطقة مثل حزب الله اللبناني، وجماعة أنصار الله الحوثي اليمنية، وكذلك بعض الفصائل في العراق وسوريا، والذين أعلنوا جميعا دعمهم لغزة حتى إنهاء العدوان الهمجي عليها، ولكن الآن وبعد اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس بواسطة إسرائيل على الأراضي الإيرانية، والحديث عن رد إيراني مرتقب، غير معروف مداه حتى الآن، تعتبر هناك مواجهة فعلية بين إيران وإسرائيل، وإن كانت منظمة بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية حتى الآن.
و لهذا كله فإن شبح الحرب الشاملة بالفعل يلوح في الأفق ويمكن حدوثها في أي لحظة، إن لم يتم الاستماع لصوت العقل، وهو الموقف الذي تتبناه مصر بأن الحل الوحيد هو إيقاف العدوان الفوري على قطاع غزة، وانسحاب القوات الإسرائيلية، وفك الحصار، والدخول في عملية سلام حقيقية تمنح الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة.
وبخصوص هذا الملف تتحمل مصر مسؤولياتها كاملة منذ اللحظة الأولى لهذا العدوان، سواء في محاولة العمل الدائم على ضمان إدخال المساعدات لسكان القطاع المحاصرين، أو السعي الدائم للتوصل لاتفاق يضمن وقف إطلاق النار.
وذلك بالإضافة إلى الموقف المصري الحاسم ضد مخطط التهجير الذي كان يسعى إليه الاحتلال، بنقل أهالي غزة إلى سيناء، الذي كان من شأنه تصفية القضية كما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي في بداية الأزمة، ورغم كل الضغوط الهائلة تم إحباط هذه الخطة الصهيوأمريكية.
و بالنسبة للحدود المصرية الجنوبية حيث السودان، لا يوجد استقرار منذ اندلاع الاشتباكات بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، ودخول البلاد في دوامة من العنف لا يمكن التنبؤ بشكل نهايتها.
أما بالنسبة لليبيا التي تقع ناحية الحدود الغربية لمصر، فكلما هدأت الأمور تجد من يشعلها مجددا، والآن ربما تعود الاشتباكات بين الأطراف هناك في أي لحظة، وكل ذلك لا يحدث بمعزل عن أياد دولية تعبث بالمنطقة من أجل تحقيق مكاسب خاصة حتى ولو على حساب شعوبها جميعا.
وسط هذا المُناخ والاضطراب توجد مصر، وعليها التعامل مع كل ذلك بحكمة بالغة، وحذر شديد، وفهم دقيق لأبعاد ما يجري وما وراءه، وذلك بالفعل ما حدث وما زال بفضل الرؤية الصائبة والدقيقة للمشهد، واتباع سياسة متزنة تقوم على ثوابت راسخة.
ومع هذا لم يتم استبعاد أي سيناريو حتى وإن كان عسكريا، ولأن قوة الردع هامة في مثل تلك الظروف، كان العمل مبكرا على تعزيز قدرات قواتنا المسلحة، ورفع كفاءتها، والأهم هو الانتباه إلى ضرورة تنوع مصادر التسليح، وتلك مسألة غاية في الأهمية، حيث إن المستقبل غير مضمون وحليف اليوم قد يصبح عدو الغد، إذا تعارضت المصالح.
لا شك أن هذا انعكس بشكل مباشر على الأوضاع الداخلية في مصر، وتسبب في أزمات اقتصادية صعبة لا يمكن التهوين منها، ولكن دائما يتم العمل على مواجهتها والتخفيف من آثارها قدر المستطاع، وذلك يتطلب فهما لتحديات المرحلة من الجميع، حتى يتمكن الوطن من عبور هذه الفترة العصيبة بأمان، وسط مخاطر تحيط به من كل جانب وأطماع لا تنتهي.
ورغم كل ما سبق، فإن مصر لا تحاول البقاء مستقرة فقط، ولكنها تسعى للبناء والنهوض نحو مستقبل أفضل وسط كل تلك التحديات، وسوء النوايا من بعض الأطراف.