بثينة العيسى.. كاثلين كيلي التي أُحِب
لا أعتقد أنني الوحيدة التي تعلقت بـ كاثلين كيلي صاحبة المكتبة وبائعة الكتب في فيلم You have got mail، فأنا أعرف على الأقل 20 صديقة في مراحل مختلفة من أعمارهنّ وأعمالهنّ وددن لو يمتلكن مكتبة تبيع الهدايا أو الورود والمخبوزات والعطور إلى جانب الكتب، أي شيء إلى جانب الكتب. ولربما كان حبُّنا للقراءة إضافة إلى تأثُّرنا بِخِفَّة وجمال الممثلة ميج رايان السبب الخفيّ وراء حلم المراهقة الشائع هذا.
وحين كان مقرُّ عملي يقعُ في حيّ الزمالك في السنوات من 2008 إلى 2014 كنتُ أمرُّ يوميًا أمام فرع مكتبة ديوان القابع بِسَكِينة أمام قصر عائشة فهمي من ناحية وفندق الماريوت من ناحية أخرى. أمرُّ أمام المكتبة وأدخلها بصفة شبه يوميّة أشتري الكتب أو لا أشتري؛ المهم أنني داخل المكتبة أسيرُ بين الرفوف والكتب.
في بداية علاقتي بالكتابة والأدب وقبل حتى أن أكتب أول إصداراتي "جامع البنات"، قالها لي أبي رحمه الله بوضوح "يا بنتي الأدب مابيأكلش عيش" ولم يكن أبي يعني أن أبحث عن عمل "يأكِّل عيش" والسلام لكنه بتكوينه الصعيدي كان رجلًا استثماريًا يفكّرُ في المشاريع التجارية وشراء العقارات وتكبير رقعة الأراضي في البلد لدرجة أن أصدقائي في مرحلة ما أطلقوا عليّ: بنت الإقطاعي.
ولم أكن وقتها لديّ أي فكرة أو علاقة بحياة الأدباء، كانت علاقتي بالكتب فقط. وفكّرتُ كثيرًا في كلام أبي: هل يعني ذلك أن كل هؤلاء الأدباء شحّاذون؟ الحقيقة كنت أعتقد أن الأديب يأكل من عمل يديه الذي هو الكتابة ثم أدركت لاحقًا بعدما أصبحت كاتبة أن ذلك يكاد يكون مستحيلًا في العالم العربي تحديدًا.
ولكي أجمع بين العالم الذي أحبه والفكر الاقتصادي لمشروعات أبي فكّرتُ أن أصبح أنا "كاثلين كيلي" وأن أنشئ مكتبة، ومن هنا جاء تأمّلي لمشوار الكاتبة الكويتية بثينة العيسى.
عرفتها في البداية كاتبة مميّزة أحببتُ لغتَها وموضوعات رواياتها وطرحها للقضايا، ثم تورّطتُ فيها بالكُليّة حين تابعتُ مشروعها المحبب إلى قلبي والذي كان حلمي الشخصي ذات يوم: حلم إنشاء المكتبة التي تبيع الكتب والهدايا والذي حققته بثينة بإنشائها مكتبة "تكوين" ثم توسّعت لاحقًا إلى دار نشر، فسبق حلمُها حلمي بخطوات.
ورغم ما ينال الكُتّاب في كثير من الأحيان من بعض الغيرة الأدبية فلا يمتدح بعضهم بعضًا بشكل كبير/علنيّ؛ غير أنني لا أجدُ مناسبة لأتحدثُ فيها عن بثينة ومشروعها إلا فعلتُ، ثم حدث أن التقيتُها مرّة واحدة في أول حفل توقيع لها بالقاهرة؛ وقعّتُ منها أعمالَها وأهديتُها روايتي الأحدث آنذاك "فريدة وسيدي المظلوم" ولم أزِد.
يقول مارتن لوثر كينج: "على كل شخص لديه قناعات إنسانية أن يقرر نوع الاحتجاج الذي يناسب قناعاته، لكن علينا جميعًا أن نحتجّ" وهذا هو جوهر ما تفعله بثينة العيسى بخلاف بيعها للكتب.
قرأتُ في الأيام الماضية كتابها " شرفُ المحاولة.. معارِكُنا الصغيرة ضدّ الرقابة" والذي صدر عام 2023، لأرى جانبًا خفيًا من بائعة الكتب؛ الجانب المقاتل.
تسرد بثينة في كتابها تاريخَ الرقابة على الكتب والمطبوعات ومجال الطباعة والنشر بشكل عام في دولة الكويت الشقيقة بعدما كانت واحدة من أهم المنابر التي تعتني بالمطبوعات الثقافة والعلمية، تُقدِّم مطبوعات ثريّة قيّمة اعتدنا على تلقّفها وتحليلها ومناقشة ما يأتي بها بقلم أعلام الفِكر آنذاك كـ"مجلة العربي" وسلسلة "عالم المعرفة" وغيرها. ثم تسرد وقائع بعينها لمنع بعض الكتب التي تشكّل حجر زاوية في هويّتنا الثقافية العربية مرورًا بمختلف أشكال الإصدارات لمختلف المؤلفين من ديوان جلال الدين الرومي إلى كتب عبد الوهاب المسيري وفرج فودة وعباس العقاد وعلي الوردي وفراس السوّاح وماركيز وچورچ أورويل وغيرهم؛ وصولًا إلى حملات التفتيش على المكتبات ومصادرة الكتب من أجنحة الناشرين بمعارض الكتاب. وحتّى بثينة العيسى نفسها لم تنجُ من هذا الطوفان فتمّ التأشير على روايتها "خرائط التيه" بالمنع ولم يؤدِّ الطعن الذي تقدّمت به على القرار إلى أيّ تغييرٍ يُذكر على المدى القريب.
ثم تستعرض بثينة عدة محاولات و"معافرات" منها ومن زملائها الناشطين في مجال حرية الإبداع وبعض الكُتّاب -ثم انضمّ لهم لاحقًا بعض النواب البرلمانيين- للحصول على محاضر بأسماء الكتب الممنوعة وحيثيات المنع وتقارير الرقباء في وزارة الإعلام وقرارات لجنة الرقابة فيما يخص هذا العدد الضخم من الكتب الممنوعة والمُصادَرة والذي وصل إلى 4390 كتاب خلال 5 سنوات فقط!
لم يشغلني انتصار بثينة -كاثلين كيلي- في معاركها ضد الرقابة والتي وَصَفَتها بأنها "صغيرة" في حين أراها أنا إنفاقًا ثمينًا من كلّ ما تملك؛ مالًا وكتابةً وجهدًا ومثابرة ووقتًا ومخاطرة بالنّفس. ولكن جَلّ ما شغلني وجعلني ألتهمُ كتابَها التهامًا هو رحلة تحوّلها من كاتبة تبذل جهدًا فرديًا تمامًا في اتجاه حقوق الإبداع وحرية النشر إلي مؤسَّسَة كاملة سحبت خلفها مؤلفين وناشرين وقُرّاء وبرلمانيين واكتسبت في طريقها الكثير من الداعمين والمُهتمِّين بالمجال العام -بل وبعض الأعداء- حتّى وإن خَسِرت بعض جولات المعارك.
وهنا توقّفتُ أمام الشاكلة الجديدة التي اتّخذها حلمي القديم -حلم كاثلين كيلي- الذي وقف عند حدود بائعة الكتب وكفاحها ضد المنافسة. فبثينة العيسى أصبحت هي صاحبة التجربة على الأرض والتي تحوّلت بذاتها إلى مؤسسة تحتوي بائعة الكتب والناشرة والناشطة ضد قيود الرقابة والبيروقراطية ومن ثَمّ المُطالِبَة بإصدار قانون جديد للمطبوعات والنشر وما إلى ذلك من عقبات وتجارب في عالمنا العربي لم تحظ الزميلة كاثلين كيلي بخوضها ولا التعرّض لها، ما يجعل تجربة بثينة أعمق تأثيرًا وأكثر إلهامًا.
كما أنني حين أفكّر في احتمالية تحقيقي لهذا الحلم القديم أنظر للتجربة بعيون أكثر واقعية من تلك الرومانسية السابقة؛ أسألُ نفسي: على كَم صعيدٍ سأحارب وفي أي اتجاه؟ فلم يعد يشغلني حلم بائعة الكتب والمخبوزات أو الورود وأكواب القهوة، بل أصبحتُ معنيّة بشكل أعمق بصناعة الثقافة وما يستتبعه ذلك من مواجهة خصومها: البيروقراطية ومعايير النشر المنحازة والتيارات الفكرية المتعسّفة.
المشهد الذي أدمع عيوني حقيقةً في "شرف المحاولة" هو مشهد رقيبة الكتب التي أشّرت بالمنع على رواية "خرائط التيه" ثم ذهبت إلى بثينة خِلسة لتطلب منها نسخة من الرواية، ثم ضبطتها بثينة في يومٍ آخر تقفُ على مقربة من باب المكتبة لتستمع إلى إحدى الندوات التي تستضيفها مكتبة تكوين! كانت الرقيبة قارئة ومُهتمّة بالندوات التثقيفية ولكن "أكل عيشها" الذي تقتات منه كان منع الكتب طبقًا لضوابط معينة ليست هي مَن وَضَعتها لكنها تُطبِّقها بشكلٍ آليّ تستبعد من خلاله الكتب والروايات وتؤشّر عليها بالمنع.
يا الله! أيُّ ضلالٍ يشعرُ به المرء حين يكون مجبورًا على الوقوف تمامًا ضد قناعاته. ولَكَمْ مِن سَجّانٍ وقع في غرام السجين لكنه لا يملك إلا أن يظلّ واقفًا على البابِ المُوصَد وبيده مفتاح.