حقيقة التجربة الصوفية
يعد التصوف بعدًا مهمًّا من أبعاد الوجود والفكر والتراث الديني والإنساني، بل هو البعد الأكثر سموًا وجمالًا وثراءً وإلهامًا، لكنه في حقيقته تجربة روحية ذاتية يرتقي فيها الإنسان السائر في الطريق الصوفي روحيًا ومعرفيًا وأخلاقيًا عبر مدارج من المقامات والأحوال حتى يصل إلى أعلى درجات القرب من الله، وعندئذ يتبدى له ما خفي عن الآخرين، وتُرفع عنه الحجب ليرى الأمور كما هي، ويصير الولي الصالح والإنسان الكامل الذي اقترب ورأى وعرف.
وعندما يعود الصوفي من تلك الحالة الروحية التي نال فيها القرب والوصل، وتم له الكشف عن الأسرار، يجب عليه - كما نص دستور الصوفية الكبار - ألا يتيه بين الناس عجبًا مدعيًا أنه من أصحاب الكرامات. كما يجب عليه ألا يبوح بما عرف ورأى، وأن يحفظ أسرار تلك التجربة الروحية، ومن يُخالف هذا الدستور يُعطى للناس حق اتهامه في عقله ودينه وسلوكه وهدر دمه، مصداقًا لقول تاج الصوفية الشيخ أبو بكر الشبلي، المتوفى عام 334 هـجريًا: "من أباح الأسرار فقد أبيحت دماؤه".
وهذا ما حدث بالفعل مع الصوفي الشهير الحسين بن منصور الحلاج المتوفى عام 309 هجريًـًا، وهو تلميذ أبي بكر الشبلي الذي باح بوجده وحاله ومعرفته بلغة صوفية مجازية فيها مخالفة في الظاهر لشريعة الفقهاء والسلطان، فأُهدر الفقهاء دمه واتهموه بالخروج على صحيح الدين والدعوة إلى فكرة الحلول والاتحاد، لقوله في بعض حالات وصله ووجده:
أَنا مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنا
نَحنُ روحانِ حَلَنا بَدَنا
نَحنُ مُذ كُنّا عَلى عَهدِ الهَوى
تُضرَبُ الأَمثالُ لِلناسِ بِنا
فَإِذا أَبصَرتَني أَبصَرتَهُ
وَإِذا أَبصَرتَهُ أَبصَرتَنا
أَيُّها السائِلُ عَن قِصَّتِنا
لَو تَرانا لَم تُفَرِّق بَينَنا
روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ
مَن رَأى روحَينِ حَلَّت بَدَنا.
وقد جعل مصير الحلاج المأساوي معظم الصوفية اللاحقين عليه، وعلى رأسهم حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي المتوفى عام 505 هجريًا، يُؤثرون الصمت عن الكلام، ويُدخلون أسرار تجربتهم الروحية في باب المضنون به على غير أهله، ليجعلوا لسان حالهم ومقالهم في وجودهم العام وفي تعاملهم مع المجتمع والناس قول الشاعر العباسي ابن المعتز المتوفى عام 296 هجريًا:
كانَ ما كانَ مما لستُ أذكرهُ
فظنّ خيرًا ولا تسألْ عن الخبرِ.
وهذا الاختيار الصوفي الواعي يدل في يقيني الشخصي على تواضع ديني وروحي ومعرفي من رجال التصوف الأصلاء الحقيقيين وليسوا الدخلاء المدعين، كما يدل على فهم عميق لحقيقة التجربة الصوفية بوصفها تجربة تعبدية ذاتية، وفهمًا خاصًا نخبويًا لعلاقة الإنسان مع الله ودوافعها وغاياتها؛ وبالتالي إدراك أنها تجربة خاصة لا يمكن تعميمها بأي حال، كما لا يمكن نقل أسرارها وخبراتها من النطاق الخاص إلى المجال العام إلا في أضيق الحدود، وعلى سبيل الرمز والمجاز والتلميح دون التصريح.