عهد الصداقة
من سنين كتيرة ولما ظهر تطبيق "ياهو ماسنجر" كنت من أوائل الناس اللي بيضيعوا وقتهم عليه.. للي مش عارفينه ده تطبيق أشبه بوسائل التواصل الاجتماعي حاليًا كان بيعتمد على الدردشة بين ناس مختلفة من أماكن مختلفة وكان طفرة في وقت ظهوره.. فكرة إنك تتكلم مع ناس من محافظات تانية ودول تانية كانت فكرة بتثير الشغف إلى حد بعيد!.. شوفتها فرصة إني أتعرف على ناس مصريين، وماخدنيش التطلع إني أتكلم مع أجانب مش عارف ليه.. يمكن بمعايير سني وقتها كنت حاسس إن ولاد بلدي أقرب يعني في الكلام والهات والخد..
المهم إن من ضمن الناس اللي اتعرفت عليهم شاب جميل اسمه "ميدو العتال".. من محافظة بورسعيد.. فضلنا نتكلم لمدة 5 سنين كاملة!.. كل يوم فيه شات مع "ميدو".. ياخد ساعة يا خد نص ساعة المهم إن كل يوم لازم نتواصل.. عرفت منه إنه ولد وحيد على 3 بنات والدهم اتوفى وساب مسؤولية البيت كله في رقبة الزوجة والطفل "ميدو".. والزوجة الحقيقة كانت بتحاول على قد ما تقدر تسد وتشيل بس كانت محتاجة إيد معاها، والإيد دي كانت ابنها "ميدو" اللي طلع من المدرسة وقرر يشتغل عشان يساعد أمه سواء في مصاريف البيت أو تعليم إخواته البنات.. الأم اعترضت.. إحنا مش قد التعليم ومش قد مصاريفه يا ابني، وفي النهاية كل واحدة من إخواتك مسيرها لبيت جوزها ومش هتعمل حاجة بالشهادة..
هنا بيصمم "ميدو" على كلمته.. لازم إخواتي يتعلموا يا أمي.. وكلامه بيمشي.. اشتغل في مليون شغلانة وعمره ما حط قرش لنفسه وكل فلوسه كانت رايحة أول بأول على دروس إخواته ولبسهم وأدواتهم المدرسية.. الجميل إنه كان طاير من الفرحة وحاسس إنه بيعمل شيء مفيد.. طب وأنت يا عم؟.. أنا هما، ومادام هما تمام أنا تمام التمام.. ده كان نموذج من ردوده اللي شبه بعض كل ما أكلمه في نفس النقطة عن نسيان نفسه والتركيز في حياة إخواته.. لكن ورغم كل ده كان فيه نقطة سر عند "ميدو" هي اللي شكّلت طبيعة علاقته المتينة مع إخواته البنات.. وهي إنه كان مصاحبهم.. الصداقة كانت هي المحرك الأساسي لعلاقته بالتلاتة أكتر من الأخوة.. هي دي وجهة نظر "ميدو" عمومًا في الحياة!.. إن أى علاقة بين طرفين ماداموا فضلوا محافظين على شعرة الصداقة ما بينهم يبقى ماتخافش عليهم من تقلبات الدنيا وزعابيبها.. أنا اتعلمت الدرس ده من "ميدو" بدري ويمكن التفصيلة دي اللي حببتني في شخصية الولد ابن البلد ده أكتر وخلتني بعد 5 سنين عايز أروح أزوره في بورسعيد عشان أقعد معاه وجهًا لوجه!..
الكلام ده كان سنة 2009 والراجل رحب بقلب مفتوح بصراحة.. وصلت المحافظة عشان أقابله في المحل اللي بيشتغل فيه.. كان بيشتغل في محل ملابس بدأ فيه كـ شيال وبعد كده وبسبب شطارته ونباهته بقى هو اللي بيدير المحل وبيمسك الخزنة لما صاحب المكان بيغيب.. بالسؤال والبحث والمرمطة قدرت أوصل لعنوان المحل.. كنت متأكد إني هعرفه من شكل صورة البروفايل وفاهم إني هدخل هلاقيه قاعد متربع على المكتب بقى.. دخلت المحل لقيته بالفانلة الحمالات ومشمر البنطلون وبيمسح!.. قلت فُل أكيد كان بيرسم نفسه عليا فبلاش أحرجه واتعاملت عادي.. شافني فعرفني وسلم عليا بصدق وود حقيقي واستأذني يكمّل شغل وهيبقى معايا.. خلص مسح وترويق للمحل ولبس قميصه وظبط بنطلونه وهدومه وقعدنا دردشنا.. طول القعدة هو حاسسني مش على طبيعتي معاه ومقفول منه وفيه سؤال ناطط على ملامح وشي بدون ما أقوله: (كدبت عليا ليه يا عم؟!).. هو حس.. فقرر يشيل الحرج ويحكيلي.. قال: (شكلك متاخد مني يا تامر طب بُص يا صاحبي).. بدأ يشرح..
عرفت منه إن الولد العامل المسئول عن مسح المحل اضطر يغيب عشان أمه عيانة وإنه اتصل بصاحب المحل يستأذنه فصاحب المحل مارضيش يديله أجازة وحلف إنه لو جه ولقى المحل مش متنضف هيمشيه.. "ميدو" اتصدر في الحوار وكلم صاحب المحل وحاول يقنعه يسمح للواد يغيب اليوم ده برضو الراجل مارضيش.. فـمن ورا صاحب المحل "ميدو" إدى إذن للواد يغيب وقرر إن هو اللي ينضف المحل بنفسه واتصل بصاحب المحل وقاله الواد جه ونضف واتصل بالواد وقاله صاحب المحل سمح لك بـأجازة نصف يوم بس.. لما سألته: طب ليه قلت للواد نصف يوم مش يوم كامل؟ قالي: (عشان ييجي هنا وأديله أي فلوس يمشّي بيها حاله ليكون محتاجها ما هو أنا مش هقدر أسيب المحل لوحده).. لقاني باصص له بـانبهار وقلتله: أنت عظيم والله يا "ميدو".. قال فـي بساطة: (يا عم صلي، صاحبي يا جدع، الله! كلت معاه عيش وملح خلاص يبقى صاحبي، ده عهد مافيهوش فلسعة يا عمنا، وبعدين أنا مش قولتلك الصداقة لو دخلت في أي حاجة بتحليها!).
* كل مكان هتزوره هتطلع منه بدرس.. كل شخص هتعرفه هتطلع منه بدرس.. الأماكن، والمواقف، والناس اتخلقوا عشان يعلمونا.. وأعتقد أجدادنا زمان لما قالوا إن معرفة الناس كنوز كانوا يقصدوا بيها إنك بعد أي تعامل مع أي شخص هتخرج بحاجة من اتنين: يا إما بدرس مدى الحياة، يا إما بشخص مدى الحياة.. عشان كده وبمجرد ما تتأكد إن الشخص اللي قدامك ده يستاهل قُربك لازم اللي يحكم العلاقة بينكم "الصداقة".. الصداقة لما بتدخل في أي علاقة بتحليها وبتخليها.. صداقة الزوج بزوجته، أو الأب بأولاده، أو الأستاذ بتلاميذه، وغيرهم.. وجود لمحة الصداقة بين اتنين بتزين العلاقة وبتخليك واثق إن ربنا رزقك بسند، وضهر في وقت الوقعات، ووقت ما الدنيا تقفل أبوابها في الوشوش.