الحب والحرية| قصة
ليل شتوي يضرب أبدان الناس فيلقي بها قشعريرة طَوال مسيرهم، سواء على أقدامهم أو خلال ركوبهم للسيارات، إذ إن الليل دائما مزدحم، وكذلك هو مزدحم، حيث يمتلئ صدره بآلاف الأفكار، ويأخذ عقله في استرجاع أحداثٍ مؤلمة من ذاكرته، أحداث تمنى لو تُمحى ليس فقط من ذاكرته بل من الوجود نفسه.
ينظر من نافذة الباص الزجاجية على المباني الشاهقة وغير الشاهقة، والسيارات الفارهة التي تذكره بمدى عجزه أن يعيش حلما واحدا من أحلامه، يتفحص وجوه المارة، منها وجوه سعيدة يبدو أن لها قصة تسُر السامعين، ووجوه أخرى شوهتها صعوبة المعيشة وتكاليفها، فلا يمر يومٌ إلا والحزن يكسوها أكثر وأكثر، حتى يكون بديلا عنها.
نظر ناحيته فوجد شابا وفتاة تتشابك أصابعهما في وهن، أعينهما غائبة عن الوعي وعن كل شيء، حرّك رأسه قليلا حتى لا يُظهر أنه يراقبهما، ثم بدأ يتخيل قصتهما.
التقيا في الجامعة، جمعتهما في البداية بعض النظرات الخاطفة ثم سلام يخرج على استحياء، ثم أخذ الكلام رويدا رويدا يبني بينهما جسورا، حتى صافحهما الحب وطاف بروحهما وعانق الشوق القديم مُلهبًا الكلمات في صدر كل منهما.. في هذه اللحظة، أحسا أن قدرهما واحد.
بعد تخرجهما قرر الشاب أن يتخذ الخطوة الوحيدة التي تدل على صدق مشاعره اتجاه رفيقته، فما كان إلا أن تقدم لخطبتها، وهذا ما حدث، وكانت هذه هي الخطوة التي رسمت أحلاما وردية مهدت لطموحاتهما الفردوسية، لكن الحياة مسمار إذا جرح أحدهم لم يتوقف نزيفه أبدا.
مرتبه يتآكل يوما بعد يوم، حتى هي أيضا لا تستطيع أن تكفي حاجاتها، أصبح يعمل في وظيفتين حتى يوفر مصروفات عرسهما، وهي كذلك تجتهد معه، حتى إن الأهل تعاونا معهما، لكنه لا يرتكن للبدايات، ربما يخشى أن يكون القادم غير رحيم ولا يعرف الشفقة، حتى هي أحست بذات الشعور، هما لن يفترقا هما فقط خائفان.
استيقظ من غفوته التأملية، عندما توقف الباص قليلا وسمع تهامسهما، إذ قالت:
- لماذا أنت متوتر؟ نحن مستعدان لهذا.
- لا بُد لي من الفزع وليس التوتر، لقد حمّلتكِ فوق طاقتي.
- لا تقل هذا، إن ما بيننا أكبر من كل هذا!!
- أعلم يا عزيزتي، ولكن كنت أرجو أن يكون لكي حفل زفاف أفضل من الذي أعددناه، حتى حُليُكِ ليست ذهبا خالصًا، وأخشى بعد الزواج ألا نستطيع أن نواجه الحياة.
وضعت إصبعها على شفتيه قائلة: مهما حدث أو يحدث.. في النهاية سنكون معا.
ساعتها أيقن أنه وجد مَن يستحق، وأن رحيله كان لا بُد أن يأتي؛ حتى يولد حب حقيقي يطهر الحياة من الحقد والبغض والكراهية، لذا انتهز الفرصة:
- بعد إذنك.
- أفندم!!
- ينفع تدفعلي الأجرة، أصلي نسيت أديها للسواق، وكمان رجلي وجعاني مش قادر أقوم.
- حاضر من عينيّ.
- شكرًا.
كانت صاحبته تنظر من النافذة واضعة سماعة الأذن، والسائق ينظر في صندوق الفكة حتى يعطيه بقية النقود، والباص لا يوجد فيه إلا راكب واحد في مقدمته فقط، بينما لا يجلس في مؤخرة الحافلة إلا هو والرفيقان، في لمح البصر، أخرج ظرفا كبيرا مغلفا ثم وضعه في كيس كبير مملوء بالبيجامات، كان موضوعا بجانبها.
عاد إليه الفتى بالفكة وأعطاه التذكرة، ولم تمرّ دقيقتان، حتى ذهب عنهما قاصدا وجهته الأخيرة.
بعد أن وصلا إلى وجهتهما، نزلا من الباص وأكملا مسيرهما في طريق عمومي يمتد لمسافة بعيدة، قالت له: هذه البيجامات اشترتها ابنة خالتي، ولم ترتدِ أيًّا منها، وأخبرتني أن هذه هديتها لي بمناسبة الزفاف.
- هدية، هههههههه، أو تقصدين أنها فوجئت أن حجمها صار لا يناسبها، فقررت التخلص منها.
- كفاك هذا!! لا أعلم لماذا لا تحبها، إنها حقا طيبة.
- طيبة؟!! لأ يا شيخة!! لا أعلم في عائلتكِ طيبا سواكِ وأبواكِ، كلهم يهمزون ويتلمزون فيما بينهم، فلا تأمني للأقنعة، فمصيرها أن تسقط يوما، وإن ثُبتت بالحديد.
- إيه يا عم الفيلسوف، ما براحة علينا شوية!!
وأخذا يضحكان رغم كل شيء، ثم أرادت أن تستريح قليلا، فجلست على أحد المقاعد المخصصة للانتظار، وقالت له: طيب تعالى نتفرج على البيجامات ديه.
- اتفرج على إيه؟! ديه شكلها باعت الكويس، واديتك اللي معرفتش تبيعه، علشان تبان إنها كريمة.. ست سوسة.
- بس بقا، تعالى نتفرج.
أخذت تضع يدها في الكيس ولما لامست أصابعها شيئا ورقيا صلبا، فُزعت، ثم نظرت داخل الكيس فوجدت مظروفا ضخمًا، نظر إليها متعجبا هو الآخر، ثم مزَّقت المظروف فوجدت مالا كثيرا!!
كتمت صرخة كادت تخرج من فمها، بينما رفيقها يتصبب عرقا، ثم قال لها في فزع:
- قوليلي إيه ده حالا!! وأوعا تقوليلي بنت خالتك؟!
- بنت خالتي مين يا عم؟! ديه شحاتة.
وفي ظلّ هذه الصدمة أخذا كلاهما يضحك بصوت مرتفع قليلا:
- أخيرا اعترفتي.
- أقلك إيه بقا، إيه ده!! بص الورقة ديه.
سحب رفيقها الورقة وأخذ يقرأها بصوت واضح، فحلَّت عليهما الصاعقة.
"مرحبا.. إلى مَن يجد رسالتي، لا تخف، أنا رجل دنى الأجل منه، رجل أراد أن يفرح يوما فدفع بقية عمره أحزانا، رجل كان يخاف أن يفرح حتى لا يرى الحزن في عين الآخرين، لقد غابت عني كل أسباب السعادة، فلم أعرف يوما إلا والألم كان رفيقي، كل مَن حولي خانوني، تركوني وحدي أموت كل يوم، آلاف المرات، حتى طرق بابي مرض عضال ألمَّ بي، يلتهمني على مهل كل يوم، مرض لا يغادر صاحبه أبدا.
لا أعتبره قاتلا.. بل أعده طبيبا جاء لكي يُبرئني من الحياة بالموت، فبعد أن قست عليّ الأرض وسكانها، ستحنو عليّ السماء وأهلها، حيث الحب والحرية.
أما هذا المال فأنا أبحث عمّن يستحقه، فإذا وجدتُه؛ تركته له دون أن يدرك أو حتى إن أدرك فهي هدية لا تُرد."
نظرا إلى بعضهما البعض ثم تعانقا في حرارة، والدموع تنساب على وجههما، غير مصدقين ما حدث معهما:
- أرأيت يا عزيزي، كل الوجود يريدنا معا.
- بقدر سعادتي يا حبيبتي، فإن هذا الرجل مزّق نياط قلبي.
- وأنا كذلك، لكنني أشعر الآن أنه سعيد، فربما أمثاله لا يجدون سعادتهم إلا في سعادة الآخرين، وإذا لم نفرح الآن، فمتى سنفرح؟ إن هذا الرجل المجهول يريدنا سعداء، فلا ترد رجاءه الأخير - ثم لثمت خده قبلة كبيرة، وحتضنته وهي تصرخ من السعادة.
- الآن تأكدتُ ألا قوة على وجه الأرض ستفرقنا عن بعضنا البعض.. الحمد لله
بعد أن نزل من الباص، سار بقامته الطويلة وهو يترنح في أحد الشوارع الجانبية، يتحسس خطاه بتؤدة، صدره يجاهد لكي يتنفس، إلى أن وجد مقعدا خشبيا شاغرا، تحفه الأشجار مع ضوء مصابيح خافت.
جلس، ثم خلع معطفه الجلدي، أحس أن قدماه مخدرتان، وبدأ يقول في نفسه: ما لهذا الشتاء قد صار دافئا، أين ذهب الليل بسكونه؟ لماذا أشعر أنني أرى ضوءا بعيدا يقترب مني أو أقترب منه، لم أعد بحاجة إلى هذه النظارات - يخلع نظارته ثم يطوح بها في الهواء حتى تستقر على إحدى الأشجار- الآن صرتُ حرا، لن يزعجني شيء أبدا، إن الموت هو الانعتاق، هو السلام، هو الطمأنينة... هو الحرية.
وغاب عن الوجود تماما..