سلام على الورق وحرب في الواقع
منذ أكثر من سبعين عامًا، والفلسطينيون يعيشون في دوامة من الألم، بين احتلالٍ يقضم أراضيهم شيئًا فشيئًا، وحروب متكررة تُلقي بظلالها الثقيلة على حياتهم.
في كل مرة يشتد فيها الصراع، تخرج مراكز الأبحاث والسياسيون الدوليون بمقترحات جاهزة عن "السلام"، مقترحات لا ترى في الفلسطينيين أكثر من أرقام في التقارير، ولا في معاناتهم سوى أزمة يجب إدارتها، لا حلًا جذريًا يجب تحقيقه.
تقرير مؤسسة RAND الأخير، الذي يطرح خريطة طريق لما يسميه "السلام الدائم"، لم يخرج عن هذه القاعدة، فهو ليس أكثر من محاولة جديدة لإعادة رسم ملامح الصراع، دون النظر إلى جذوره الحقيقية.
في السابع من أكتوبر 2023، اندلعت حرب جديدة بين إسرائيل وحماس، لكن هذه الحرب لم تكن بداية جديدة، بل كانت حلقة أخرى في سلسلة طويلة من العنف والاحتلال والحرمان.
القصف الذي انهال على غزة بعد ذلك لم يكن الأول، والدمار الذي حلّ بها لم يكن مفاجئًا، بل كان امتدادًا لحياةٍ اعتاد أهلها أن تكون بين حربٍ وأخرى.
التقرير يرى أن الحل يبدأ بالقضاء على حماس، وكأن المشكلة كلها تختصر في هذا التنظيم، متجاهلًا أن حماس نفسها ليست سوى نتيجة لعقودٍ من الاحتلال والظلم.
لا يمكن الحديث عن السلام دون الاعتراف بأن الفلسطينيين لم يختاروا أن يعيشوا تحت الحصار، ولم يختاروا أن يكونوا لاجئين في أوطانهم، ولم يختاروا أن تتحكم قوة عسكرية أجنبية في مصيرهم اليومي.
التقرير يتحدث عن إنشاء قوة أمنية متعددة الجنسيات لضبط الأوضاع في غزة، وعن حكومة تكنوقراطية تدير شؤون الفلسطينيين، وكأن المشكلة تكمن فقط في الإدارة والضبط الأمني.
لا يذكر التقرير كيف سيشعر طفل فلسطيني فقد والديه تحت القصف عندما يرى قوات أجنبية تحكم مدينته، ولا كيف يمكن لشاب فقد منزله أن يؤمن بحلٍّ لا يعطيه حق العودة إليه.
السلام ليس مجرد ترتيبات سياسية وأمنية، بل هو إحساس الناس بالأمان والكرامة.. كيف يمكن الحديث عن سلام بينما المستوطنات تتوسع في الضفة الغربية؟ كيف يمكن إقناع الفلسطينيين بأن هناك مستقبلًا لهم، بينما كل يوم تُهدم فيه بيوت، ويُعتقل فيه شباب، وتُقنص فيه أحلام الطفولة قبل أن تكتمل؟
لطالما فُرضت الحلول الدولية على الفلسطينيين دون إشراكهم الحقيقي.. منذ اتفاقية أوسلو، والمجتمع الدولي يحاول رسم مستقبلهم على الورق، لكن في الواقع، لم يتغير شيء سوى ازدياد الاستيطان وتضييق الخناق عليهم. في تقرير RAND، يتم اقتراح حكومة جديدة بإشراف دولي، وكأن الفلسطينيين غير قادرين على إدارة شؤونهم بأنفسهم.
هذه الفكرة ليست جديدة، فكل حل لا يمنح الفلسطينيين الحق في تقرير مصيرهم بنفسهم كان مصيره الفشل.
الشعب الفلسطيني ليس بحاجة إلى "وصاية" جديدة تأتي تحت مسميات مختلفة، بل هو بحاجة إلى اعترافٍ حقيقي بحقه في العيش بكرامة على أرضه، دون احتلال أو تدخل خارجي يحدد له كيف يجب أن يكون.
يمكن لأي تقرير أن يقترح حلولًا اقتصادية، وإعادة إعمار، وبرامج لتدريب قوات أمن فلسطينية، ولكن ماذا عن الذين هُجِّروا من بيوتهم؟ ماذا عن اللاجئين الذين ينتظرون العودة منذ عام 1948؟ ماذا عن القدس، التي لا تزال نقطة نزاع لم تجد حلًا عادلًا؟
التقرير يحاول القفز على هذه الأسئلة، لأنه يعرف أن الإجابة الحقيقية ستفسد أي تصوّر مثالي للسلام الذي يريد تسويقه. لكنه يتجاهل حقيقة بسيطة: لا يمكن أن يكون هناك سلام دون عدالة.
ربما يكون الهدف الحقيقي لمثل هذه التقارير ليس تحقيق السلام، بل إدارة الصراع، بحيث يبقى الفلسطينيون تحت السيطرة، ولكن بأقل تكلفة ممكنة على المجتمع الدولي. بدلًا من معالجة الأسباب الحقيقية للصراع – الاحتلال، الاستيطان، تهويد القدس، حرمان الفلسطينيين من حقوقهم – يتم تقديم حلولٍ تتعامل مع نتائجه فقط.
لكن الفلسطينيين ليسوا مجرد مشكلة تحتاج إلى "إدارة"، ولا مجرد أرقام يمكن إدخالها في معادلات أمنية وسياسية. هم شعبٌ له تاريخٌ وأرضٌ وحقٌّ في تقرير مصيره بنفسه.
يمكن للمؤسسات البحثية أن تكتب مئات الصفحات عن الحلول المقترحة، ويمكن للمجتمع الدولي أن يعقد عشرات المؤتمرات، لكن السلام الحقيقي لن يتحقق إلا عندما يكون هناك اعتراف واضح بأن للفلسطينيين حقوقًا لا يمكن تجاوزها أو الالتفاف عليها.
إنهاء الاحتلال، وقف الاستيطان، ضمان حقوق اللاجئين، الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة – هذه هي الأسس الحقيقية لأي سلامٍ عادلٍ ودائم. أما الحديث عن حلولٍ لا تتطرق إلى هذه القضايا الجوهرية، فلن يكون سوى إعادة إنتاجٍ للفشل الذي شهدناه لعقود.
السلام ليس وثيقة تُوقّع في قاعة اجتماعات، ولا خطة تكتبها مراكز الأبحاث، بل هو شعورٌ بالأمان والحرية والكرامة. وطالما ظل الفلسطينيون محرومين من هذه الحقوق، فإن أي حديث عن "سلام دائم" لن يكون سوى سلام على الورق، وحرب في الواقع.