الجمعة 29 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

الصَديق الأمينُ ملجأٌ حصين

القاهرة 24
الأربعاء 19/يونيو/2019 - 06:46 م

يقول سفر يشوع بن سيراخ: “إذا اتخذت صديقاً، فاتخذه بعد الامتحان ولا تثق به سريعاً” (7:6). مما لاشك فيه أن الصداقة الحقيقية أعظم عطية منحها الله للبشرية، لأنها تُخفف آلام الكثيرين وتضاعف أفراحهم. مَنْ منّا لم يندم سواء لفقدانه صديق مُحِب ومخلص أو لاكتشافه آخراً خائناً أنكر كل ما قُدِّم له من جميل؟ ومَن لم يندم على صديق فقده لأنه لم يقبل منه النصيحة؟ ما أطيب الصداقة عندما تأتينا من أشخاصٍ مُخلصين يساعدوننا على فعل الخير والفضيلة، إنهم كنزٌ لا يُقَدّر بثمنٍ، بينما إن كانوا على خلاف ذلك فهُم مصيبة تضر أخلاقنا وتفسد حياتنا، هؤلاء يُطبّق عليهم القول المأثور: “يارب خلّصني من أصدقائي، وأنا كفيل بتدبير أعدائي!” لأن الشخص الذي يريد أن يبتعد ويتجنّب الأصدقاء الفاسدين، يحتاج إلى شجاعةٍ وجرأةٍ وعزيمة قوية.

نستطيع أن نراجع ذاتنا لنكتشف كم من الأصدقاء الذين قدّموا لنا خدمات ووقفوا بجانبنا في لحظات الشدّة والضيق، ولكننا لم نلتفت إليهم ولم نعيرهم اهتماماً، حتى أننا لم نُسمعهم كلمة شكر أو امتنان، أيضاً هؤلاء الذين قدّموا لنا يد المعونة في بؤسنا وشقائنا وأثناء ملاحقة الأخطار لنا، ومع ذلك تحاشيناهم وفضّلنا الهروب من أمام وجههم. لذلك علينا أن نتحلّى بالحكمة في اختيار الأصدقاء الذين يبنون حياتنا على فعل الخير وتجنب الشر، لأن الصديق الحقيقي هو مرآة لصاحبه، يكشف له عن حسناته وعيوبه، ولكن دون أن يجرح مشاعره، كما أنه يساعده على تجنّب سلبياته. يعتقد الكثير منّا أن قوة الصداقة تكمن في الكلام والحديث بين الأصدقاء، ولكن الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل يحكي عن مكوثه لساعاتٍ طويلة مع صديقه الحميم، وأحياناً كثيرة دون أن يفتح أحدهما فاه لينطق بكلمةٍ، وعند ساعة الرحيل يصافحه قائلاً: “أشكرك على هذه الأمسية الرائعة التي قضيناها معاً وإلى اللقاء غداً”. فالصداقة الحقيقية يقل فيها الكلام ويتضاعف العمل، تختفي فيها المجاملات وتزداد التضحيات، لأنها تعتمد على لغة الصمت التي تُعتبر أصدق من الكلمات.

فأساس الصداقة الحقيقية يعتمد على المجانية والقدرة في بذل الذات والتعزية أثناء الشدّة والفرح بنجاح الآخر. ونقرأ في سفر يشوع بن سيراخ: “الصديق الأمينُ ملجأٌ حصين ومَن وَجَدَه وَجَدَ كنزاً” (14:6). وكما يقول الصحفي اللامع أمبروز بييرس: “الصداقة هي سفينة تستطيع أن تحمل شخصين عندما تبحر في مياه هادئة، ولكنها تحمل شخصاً واحداً عندما تكون مياه البحر هائجة”. كم مرة اختبرنا هذه التجربة التي نجد فيها الأصدقاء القريبين منّا متواجدين في لحظات السعادة والهناء والصحة والغنى؛ وعندما تعصف بنا الرياح ويثور البحر وتعلو الأمواج، نصطدم بالواقع المرير الذي فيه يقفزون من المركب ويفرّون هاربين؟ إذاً.. هذه التجربة هي لحظة اختبار الصداقة الحقيقية، وفيها نميّز بين الصديق الأمين وذلك المزيّف الذي يتبخّر في ثوانٍ معدودة عندما تحل الكوارث ولا نجد أثراً له، فالصديق الوفي يلازمنا في الغنى والفقر، في الصحة والمرض، في الفرح والحزن.

ذات مرة قال الظل للإنسان: “أنا صديقك الوفي الذي يلازمك ليلاً ونهاراً، عندما تشرق الشمس أسرع إليك وأتقدّم أمامك لأفسح لك الطريق، وعند الظهيرة أجلس تحت قدميك، وحين تغرب الشمس أتبعك خطوة بخطوةٍ إلى حيث تمضي، وعندما يطلع البدر ألازمك في جولات المساء أيضاً”. فقال له الصديق: “ولكن أين تذهب يا صديقي الوفي حين لا تكون هناك شمس ولا قمر؟” فصمت الظل من وقته، فاستطرد الإنسان قائلاً: “إن الصديق الحقيقي هو الذي يظهر عندما تظلم الدنيا ويُسرع ليؤنس صديقه ويقف بجانبه حتى بلوغ النهار فيودّعه ويختفي”. فالصديق الوفي هو الذي يصمد بجوارنا حتى ولو تخلّى عنّا جميع الناس، ولا يتأثر بمركزنا ولا بمالنا، ولا تتزعزع محبته سواء كنّا في مركزٍ مرموق أو فقدناه، كم من الأصدقاء الذين ظهروا في لحظات النعيم، ولكنهم اختفوا عن أنظارنا عندما حلّت علينا الكارثة؟ ويقول ألبير سرلاند: “عندما يضحك صديقي فمن واجبه أن يبوح لي بسر فرحه؛ أما عندما يبكي، فمن واجبي أن أكشف النقاب عن سر شقائه”، لنتعلّم من الأم التي تشعر بآلام أبنائها قبل أن يتفوهوا بها. ونختم بكلمات الشاعر الفرنسي ڤيكتور هوجو: “إذا كنتَ نباتاً فكُن حساساً، وإن كنتَ حديداً فكُن مغناطيساً، وإن كنتَ حجراً فكُن ماساً، وإن كنتَ إنساناً فكُن حُباً”.

تابع مواقعنا